|
||
![]() |
#1
|
||||
|
||||
![]()
السماء ملبدة بالغيوم ، الرياح راقدة ، والأجواء عامة تبعثُ في تلك الليلة بالتحديد شعوراً غامضا ،حامضا ، يتصاعد ببطء إلى حنجرتي ، شعورا يشبه ما يراودني في أيام يطوقني فيها الفراغ ، فتسكنني الذاكرة بأحداثها البعيدة ، القريبة إلى الروح ، كيف لا وهي قد غرست ما غرست في أقاصي الروح ؟
بينما كانت أنفي ملتصقة بزجاج النافذة وعيناي ترقبان تراكض الغيوم في رحاب السماوات ، شدّ أبني أحمد ثوبي ، وتوسل إليّ أن أنزل له الكتاب الأزرق من رف المكتبة ، غرست أناملي بين خصلات شعره ،وعيناي تتسلقان رفوف المكتبة وقلتُ له : - أي كتاب تقصد يا حبيبي ؟ لا يوجد كتاب بغلاف أزرق في المكتبة ، ثم أشرتُ لموسوعةِ علمية بغلاف أزرق وداعبته بالقول : - دعنا من كتب الكبار ، سأحكي لكَ حكاية قطرة المطر إلا إنه صعد على الكرسي وأشار على ألبوم صور طفولتي المندس بين الكتب ذا الغلاف الأزرق وصرخ بنشوة : - هذا ماما ، أنزليه لي تصاعدت الأحداث تباعاً وأنا أحتضن أحمد بينما هو مبتهج بتقليب الصور ، كلُ صورة تعيدُ لي عمراً بأكمله ، حتى تلكَ التي لا أذكر من التقطها لي ، إلا أنني أذكر حكايتها التي روتها لي أمي ، هذه وأنا حليقة الرأس في شهري السابع ، تلكَ وأنا أقف ، الأخرى بملابس المدرسة ،أخرى بلباسِ تقليدي ، وتوالت عليّ الأسئلة من أحمد الذي تعالت ضحكاتهُ وهو ينظر إلى الطفلة في الصور ويحاول أن يطابقَ ملامحها بوجهي ، كم كان مبتهجا بهذه اللعبة ؟ إلى أن وصل أحمد تقريبا إلى نصف الألبوم ، فأيقظني من غفوتي تلك التي كنتُ فيها مفتوحة العينين ، أستعيدُ فيها شكل ألعابي ، وملمس وجه دميتي الأثيرة على قلبي ، وسألني : - لماذا هنا لا توجد صورة ماما ؟ عدلتُ من وضعيتي ، وأبعدتُ رأسهُ عن حضني ، فإذا بصفحة فارغة تعيد ترتيل أحزاني ، قبلتُ رأسه وهمستُ له : - طارت بها الفراشات يا حبيبي إلى البعيد ثم استدرتُ إلى نافذتي التي بعثت الرياح التي صحت من غفوتها إلى ستائرها الحياة ، فبدأت تتراقص بهدوء ، نثرت الرياح أوراق الخريف الجافة ، تماماً كما فعلت تلك الصفحة البيضاء بذاكرتي ، بعثرت المشاهد وأعادت عزف سيمفونيتها الشجية . أذكر عندما كنتُ في الثانية عشر من عمري ، كيف رتبتُ هذا الألبوم ، حيثُ جمعتُ صورهُ من ألبوم العائلة وصورُ أخرى من الأقارب اللذين كانوا مولعين بتصويري كطفلة أولى لعروسين جدد ، كم كنتُ فخورة بألبومي هذا ؟ رتبت فيه صوري تبعاً لتأريخ الالتقاط ، كنتُ مولعة بمراقبةِ مداعبة الأيام لملامحي ، مولعة كذلكَ ببحث أوجه التشابه بيني وبين والديّ ، أذكر إنني كنتُ أقول لصديقاتي لأثير غيرتهن ، ( أنفي طويلُ تماماً كأنفِ أمي ، ولكنّ وجنتيّ نحيلتينِ كأبي ) ، في مرحلتي الثانوية تحولت حياتي إلى جحيم ، هكذا دون سابقِ إنذار، وجدتُ والديّ يحتدانِ في النقاش وأصواتهم تعلو ، وبعد فترة وجيزة لم أستطع فيها أن أتبينَ كنه ما كان يحدث ، رأيتُ أبي يخرج من البيت وإلى الأبد ، وأمي تلوذُ بالصمت ، وأبقى وحيرتي يعلكني القلق ، طلق والدي أمي بعد أن عرفت بزواجه من أخرى ؛ لكي تنجبّ له الولد ، فأمي بعد ولادتها لي بعملية قيصرية وحدوثِ خطأ طبي كاد أن يودي بحياتها ، قطع كل سبيلِ لديها لولادة أخرى . غادر والدي بعد وداعِ قصير وسريع لي إلى بلدِ مجاور تقيمُ فيه زوجته ، وبدأت أمي في تحطيم كل شئ يحمل اسمه ، رائحته ، ذكره ، حتى امتدت يدها إلى الصورة الوحيدة التي تجمعني به ، صورة التقطتها هي لنا ، كنتُ أعبثُ في حضنهِ بينما يديّ ملطختان ببقايا الشوكلاتة . كانت هذه الصورة عزائي في بعده الذي نزل عليّ كاللعنة وسحق بضربة واحدة كل ابتسامة ترتسم على عجل في طريقي ، بحثتُ عن الصورة كالمجنونة ، أترى الحقد جعلها تمزقها ، تحرقها وتحرقٌ أمنياتي الصغيرة معها ؟ مضى ما يزيدُ عن العشرين عام ، ولم أجرأُ أن اسألها يوماً عن الصورة ، عندما جاء صوت أخي الصغير يخبرني عبر الهاتف بأن والدي توفيّ إثر حادث مروري ، قفزت الصورة إلى مخيلتي ، وانطلقت معها الأصوات ( بابا انظري لماما ، ابتسمي ... ندى قبلي بابا ، قولي مرحبا ) . بقت صور أبي في أعماقِ روحي فقط ، أعيدُ تلوينها كل ليلة ، زرع هذا الأمر في روحي فزعاً آخر ، وهو إني لا أملكُ صوراً تجمعُني بأمي ، فأعددتُ ألبوماً خاصا بصوري وأمي ، تصاعد صوتُ دافئ من أعماقي وأنا أنظر لأحمد الذي غلبهُ النعاس ، صوتُ يدغدغُ ذاكرتي بأوجاعه : ألبوماً وردياً يا أحمد في الرف الآخر . حملتُ أحمد الذي غلبهُ النعاس إلى سريره ، عدتُ إلى الألبوم الذي بغياب صورتي المقدسة لم يعد يعني لي شيئا ، تنفستُ بعمق ، دسسته بجوارِ الألبومِ الوردي ، سمعتُ المطر يهطلُ في الخارج بقوة وكأنما أبواب السماء فتحت على مصراعيها ، فتحتُ نافذتي ، وصرختُ مصوبةً عينيّ إلى السماء : لو تعلمان كم أحببتكما ؟
__________________
لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها * لما إختاره الله لوناً لسماواتِ
آخر تحرير بواسطة اسمي أزرق : 03/02/2011 الساعة 11:49 PM |
مادة إعلانية
|
#2
|
||||
|
||||
![]()
في إنتظار آراء الأصدقاء
![]()
__________________
لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها * لما إختاره الله لوناً لسماواتِ
|
أدوات الموضوع | البحث في الموضوع |
أنماط العرض | |
|
|
![]() |
||||
الموضوع | كاتب الموضوع | القسم | الردود | آخر مشاركة |
صورة الصخرة التي عرج الرسول الكريم منها للسماء( صورة نادرة جدا ) | moaud123 | السبلة الدينية | 52 | 17/08/2010 03:13 PM |
صورة جميلة لطفلة سورية...صورة للواقع العربي... العلم والعمل | ارهابية | السبلة العامة | 45 | 06/01/2008 01:50 PM |
أول بيت، وأقدس بيت، في صورة مخزية لعمر الله لأمة المليار. (مرفقات:صورة) | student | السبلة العامة | 13 | 29/07/2007 02:15 PM |