سبلة عمان

العودة   سبلة عمان » السبلة الثقافية » سبلة الفكر والحوار الثقافي

ملاحظات \ آخر الأخبار

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع أنماط العرض
  #1  
قديم 26/01/2011, 09:29 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي ما وراء الإنساني، ما بعد المنطقي ... سعيد مكي

1)

من كل المصاعب التي يواجهها الإنسان تنتصب مشكلة محددة أمام وعيه، تتحدى قدراته، تهز كيانه، وتشكك في قدرته على الوجود. يبحث هذا المخلوق البائس عن منفذ ليهرب من المأزق الذي انتهى إليه فلا يقدر. الإنسان يطمح إلى تحدى الموت فيفشل كل مرة. الموت هو اللغز الأكبر في حياة البشر.. المعضلة التي أعيت الفلاسفة والمفكرين والقادة والعامة.

يتناول كل واحد تلك القضية من المنظور الخاص الذي يمثله أفق وعيه وخلفيته الفلسفية وقدراته الذهنية المحدودة. تطرح الحلول، يتم إعادة صياغة الأسئلة ثم طرحها من جديد. تشحذ العقول وتستثار الهمم بحثاً عن مخرج أو حتى بداية طريق يبتعد عن الضباب الكثيف المحيط بالعملية برمتها.
أين هو المخرج من طريق مهما اعوج أو تشعب فسينتهي حتماً بنقطة وحيدة: الموت؟ كيف نفكر فيما وراء هذه النهاية المحتومة، ونحن أصلاً لا ندرك طبيعتها أو ماهيتها؟ لم يعد أحد بعد موته ليخبرنا كيف هي الحياة بعد النهاية.

عندما تتوقف وظائف الجسد عن العمل، وينقطع الوعي، وتتلاشى لحظات الحيوية من جسد ملأ الدنيا صخباً وزعيقاً، عندها.. هل يختفي معنى الإنسان نفسه؟ هل نحن ننتهي عندما تتحلل أجسادنا في التراب؟ هل الإنسان - كنتيجة - المحصلة الرياضية لبلايين الخلايا المترابطة معاً، أو لتلك الإشارات والرموز المجردة التي ظلت تصطرع بدماغه طوال عمره؟ حتى لو آمنا بالتفسير المادي للإنسان وللتاريخ وللحياة فسيبقى من العسير للغاية الاعتقاد بأن وجودنا سيتوقف يوماً ما. أمن الممكن التفكير في أنه سيأتي اليوم الذي لا يوجد بعده "أنا"؟

ليس طرح مثل هكذا تساؤل نرجسية شاذة تطرأ على العقل فتحيل حياة صاحبه جحيماً، إذ لا ينفك يفكر في سؤال النهاية الأعظم. هناك شيء ما يكمن في داخل فكرة الموت.. شيء مختلف يتجاوز كونه مجرد قضية فلسفية أخرى يتناولها الإنسان المفكر في مرحلة ما من مراحل حياته. أرى هنا ما يمكن وصفه "بالعقدة المركزية للفلسفة"، شيء يجمع كل الخيوط المتشابكة بعضها مع بعض، نقطة تتقاطع عندها مسارات لم يكن من المفترض أبداً أن تلتقي أو تجتمع.
__________________
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #2  
قديم 26/01/2011, 09:30 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

2)

يولد الإنسان طفلاُ جميلاً لا يدرك شيئاً. يبدو بريئاً من اللحظة الأولى. يده تتحرك حوله بعشوائية تريد التقاط أي شيء. نظراته ترمق الفضاء بخواء. بدون والديه تنتهي حياته فور بدايتها. وحيداً لا يمكنه أن يخطو خطوة واحدة. تغري هذه الصورة الشاعرية جون لوك فيعلن أن الإنسان يأتي للعالم وعقله صفحة بيضاء خاوية، وأن التعلم - التفاعل مع "الخارج" - هو ما يملأ هذه الصفحة رموزاً وكلمات.
يتقدم الطفل نحو الأمام ممسكاً بأصابع والديه. يتردد كثيراً. يسقط في الطريق. لكنه في كل مرة ينهض من جديد، يحاول ويحاول، إلى أن يصبح بمقدوره السير وحيداً. وأعظم هذه السقطات التي يواجهها تكون عندما يبدأ باكتشاف حقائق الوجود الكبرى، وأهمها على الإطلاق أنه توجد نهاية لوجود الإنسان اسمها "الموت".

يبذل "الكبار" جهداً عظيماً لتأجيل معرفة الطفل بهذه الحقيقة. تهمس الأم في أذن طفلها بأن جدته سافرت لمكان جميل مليء بالألعاب والحلوى، وأنها تشعر بالراحة الآن. يحمر خدا الطفل وهو يحاول استيعاب مضمون هذه الكلمات، لكن أعجب ما يحدث أن الأم نفسها ترتجف من الداخل لأنها تريد أيضاً تصديق الشيء ذاته.
لكن الطفل الساذج يتجاهل تماماً السؤال عن مكان هذا العالم السحري اللطيف، أو التحري عن طبيعته ومقارنته بما شاهد من حوله من قبل. فكرة واحدة تخطر بباله: لكن هل ستعود جدتي؟
ما تعنيه النهاية أنه لا توجد عودة. لن نرى من جديد هذا العالم الذي حيينا فيه. لن يسقط نظرنا على الأشجار الخضراء أو السماء فوق. لن ينعشنا نسيم الصباح ولن نشعر بلذة الارتماء على سرير النوم بعد يوم عمل شاق. سنذهب هناك ولن نعود أبداً. ثم يتلقى الطفل في طريقه الصاعد صدمات أخرى لكنها أقل شدة.

هناك صدمة اكتشاف الشر. أن يدرك الإنسان لأول مرة أنه يوجد في هذا العالم من يكرهه بعد اعتياده تلقي محبة كل من حوله. الشخص الذي قضى حياته يستقبل الابتسامات أينما ذهب يؤلمه بشدة أن يقطب في وجهه عابر سبيل. الطفل - الإنسان - سيعرف في يوم ما، في لحظة دامية مريرة، أن هناك من يبغضه وربما يتمنى قتله.
ترتبط إذن مشكلة الموت الكبرى بمشكلة الشر. وعندما يأخذ عقل الإنسان في ربط هذه الإشكاليات بعضها ببعض تنبثق الممارسات الأولى لفعل التفلسف.
يفكر الإنسان في "الآخر" الذي يبغضه ثم في النتيجة المترتبة على هذا: موته هو بفعل ذاك الشخص.
وفي سيناريو آخر تخطر في بال الطفل فكرة جهنمية جديدة: ماذا لو مات الشخص الذي يكرهني نفسه بدلاً من موتي أنا؟ ينشئ العقل محاكاة للأوضاع المختلفة، ويشرع في اشتقاق النتائج ومقارنتها بعضها ببعض. وفي لحظة ما يكتشف أنه رغم أن الموت مأساة كبرى لكنه ربما من الأفضل أن يموت ذاك الشخص بالتحديد. وعندما يتوصل عقل الطفل لهذه النتيجة يولد "الأنا" في باطن الإنسان، ومن "الأنا" تتولد معظم مشاكل الوجود الإنساني فيما بعد.
"سأقتله.. سأقتله!".. سيلقي به في مملكة هاديز المظلمة.. سيذهب هناك حيث لن يعود.. إلى الجحيم يرتحل كل الأشرار.
وقتل ابنا آدم أحدهما للآخر. أحدهما دفن في التراب مغادراً العالم الجديد، والآخر ظل يموت في كل يوم مما تبقى في حياته.
الموت والشر: أصول المآساة العظمى للوجود الإنساني.


(3)

كيف يمكن التغلب على هذه المعضلة؟ بالتفكير النظري المجرد كما يفعل الفلاسفة؟ أم بالممارسة العملية المباشرة كما يفعل المهندسون؟ أم بمزيج فريد من الاثنين كما علمنا الأنبياء؟ أم أنه ببساطة لا يوجد حل لمشكلة الموت؟! ربما كان هذا أقرب الاحتمالات إلى الواقع. ما معنى طرح أي حل لمشكلة الموت بما أنه من المستحيل الهروب من تلك النهاية المحتومة؟!
ترتبط حتماً هذه التساؤلات المعذبة بتحديد دقيق تم التوصل إليه من قبل عن طبيعة "الموت". أولاً، هل المقصود بالموت النهاية البيولوجية المحضة للجسم البشري؟ أهو تفكك التماسك الوظيفي الذي كان يربط الوحدات التشريحية المختلفة، أي إنهيار الهارموني الفيزيولوجية الفريدة التي تربط بين التركيب والوظيفة؟ إذا كان هذا المقصود بالموت فالعملية برمتها محددة "علمياً"، ويمكن وصفها بدقة بلغة الحساب. لكن، ما نعنيه عادة عند التعرض لمفهوم الموت ليس تلك النهاية "البيولوجية" للكائن البشري، بل توقف أهم ما يميز الإنسان: الوعي أو الإرادة الواعية.

من البديهي أن تحديد تعريف واضح للوعي هو أحد أعظم مشاكل الفلسفة والعلم التي لم يتم التوصل لحل موحد لها يتفق عليه الجميع. لسنا ندري إذا ما كان الوعي هو المكافئ الموضوعي "للدماغ"، من الجانب البيولوجي المحض، أم أنه شيء آخر مختلف عن المادة، تركيب "لامادي" تعجز كل من الفيزياء والبيولوجيا عن كشف أسراره.
بغض النظر عن ماهية الطبيعة التركيبية المحددة للوعي، فإن ما يمكن ملاحظته بسرعة أنه من المفترض أن يتلاشى هذا الوعي بموت الإنسان. في الحقيقة أميل للاعتقاد بأن هذا بالضبط ما يثير فزعنا وخوفنا الشديد من فكرة أننا سنموت. رغم أن الموت "نهاية"، بمعنى أن لا شيء يحدث للإنسان بعده، لأن وجوده المادي (البيولوجي) والسيكولوجي سوف ينعدم، إلا أن فكرة أن هذا "الأنا"، الذي شهدنا مولده مع بداية تفاعل الطفل الصغير مع العالم حوله، سوف يتوقف عن الوجود، هذه الفكرة هي ما يثير فينا ذاك الشعور العارم بالنفور من التفكير في الموت.
حتى لو كره الإنسان حياته وذاته لأبعد الحدود فسيظل من العسير تخيل أن يفقد القدرة على كراهية كينونته الداخلية وأن يتمنى الموت! هذا صحيح لأنه بانعدام الوعي تتلاشى على الفور كل مظاهر النشاط الإنساني.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #3  
قديم 26/01/2011, 09:34 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

.
.
.
.
,
.
هل يمكنك أن توجز فكرتك عن الموت في جملة قصيرة .. ؟!
.
.
.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #4  
قديم 26/01/2011, 09:50 PM
صورة عضوية اوراهارا كيسكيه
اوراهارا كيسكيه اوراهارا كيسكيه غير متصل حالياً
عضو مميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 23/01/2009
الإقامة: Boosting to Cambridge
الجنس: ذكر
المشاركات: 8,062
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الوقـــت مشاهدة المشاركات
.
.
.
.
,
.
هل يمكنك أن توجز فكرتك عن الموت في جملة قصيرة .. ؟!
.
.
.
Do good, and forget about everything
__________________
Do you like music? o

Morgan Page - The Longest Road
Fight for You

"music is the only thing the human race can truly be proud of"0
  #5  
قديم 26/01/2011, 09:53 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة اوراهارا كيسكيه مشاهدة المشاركات
Do good, and forget about everything

كيف ؟
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #6  
قديم 26/01/2011, 09:57 PM
صورة عضوية اوراهارا كيسكيه
اوراهارا كيسكيه اوراهارا كيسكيه غير متصل حالياً
عضو مميز جداً
 
تاريخ الانضمام: 23/01/2009
الإقامة: Boosting to Cambridge
الجنس: ذكر
المشاركات: 8,062
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الوقـــت مشاهدة المشاركات

كيف ؟
افعل الخير و لا تخش ما بعد الموت, هذا أسلوبي. أما كيف,
الخير من الممكن تلخيصه في: أفد و استفد و لا تؤذي.
__________________
Do you like music? o

Morgan Page - The Longest Road
Fight for You

"music is the only thing the human race can truly be proud of"0
  #7  
قديم 27/01/2011, 01:34 PM
صورة عضوية اسمي أزرق
اسمي أزرق اسمي أزرق غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 30/08/2010
الجنس: أنثى
المشاركات: 142
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الوقـــت مشاهدة المشاركات
.
.
.
.
,
.
هل يمكنك أن توجز فكرتك عن الموت في جملة قصيرة .. ؟!
.
.
.



الجميلة : وقت


شكراً صادقاً على الموضوع الذي راق لي جداً

الموت : عرفتهُ أول مرة عندما توفيت جدتي وأنا في السادسة ، كرهتهُ عندما أخذ أبي بعد ذلك ، وأتخذتهُ عدوا بعد أن نزع صديقة لي في الثانية عشر من عمرها و زوجان سعيدان بطفلهما الأول (معلمتي وجارنا ) بعد قصة حب عذري طويلة ، وتسامحت معهُ بعد أن رأيتهُ يريح البعض
( كالمجانين الذين لا يجدونَ من يرأف بحالهم ) ، ثم دفعني لأن أغرم بأمي عندما رحل درويش لأنني أصبحت مثله (وأخجلُ إن مُت من دمعِ أمي ) ، لعلهُ جنوناً لكنني وبحق لم أخشى الموت يوماً ولربما توددتُ له أحيانا ، الموت : صمت ، وغياب ، ولكنهُ لطيف طالما الرب هنا وهناك .

رزقنا الرحمن حسن الخاتمة
__________________
لو لم يكن أجمل الألوان أزرقها * لما إختاره الله لوناً لسماواتِ
  #8  
قديم 27/01/2011, 10:13 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة اسمي أزرق مشاهدة المشاركات
الجميلة : وقت


شكراً صادقاً على الموضوع الذي راق لي جداً

الموت : عرفتهُ أول مرة عندما توفيت جدتي وأنا في السادسة ، كرهتهُ عندما أخذ أبي بعد ذلك ، وأتخذتهُ عدوا بعد أن نزع صديقة لي في الثانية عشر من عمرها و زوجان سعيدان بطفلهما الأول (معلمتي وجارنا ) بعد قصة حب عذري طويلة ، وتسامحت معهُ بعد أن رأيتهُ يريح البعض
( كالمجانين الذين لا يجدونَ من يرأف بحالهم ) ، ثم دفعني لأن أغرم بأمي عندما رحل درويش لأنني أصبحت مثله (وأخجلُ إن مُت من دمعِ أمي ) ، لعلهُ جنوناً لكنني وبحق لم أخشى الموت يوماً ولربما توددتُ له أحيانا ، الموت : صمت ، وغياب ، ولكنهُ لطيف طالما الرب هنا وهناك .

رزقنا الرحمن حسن الخاتمة
اسمي ازرق

أدعوك للقراءة عن هديل الحضيف ..

ابحثي عنها وأنا واثقة أن كتاباتها ستعجبك ..
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #9  
قديم 28/01/2011, 01:58 PM
سعادة المرشح سعادة المرشح غير متصل حالياً
عضو مميز
 
تاريخ الانضمام: 27/12/2008
الإقامة: المجلس
الجنس: ذكر
المشاركات: 2,661
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة الوقـــت مشاهدة المشاركات
.
.
.
.
,
.
هل يمكنك أن توجز فكرتك عن الموت في جملة قصيرة .. ؟!
.
.
.
ضيف مجبر على استقباله
__________________
أسير على نهج يرى الناس غيره *** لكل امرئ فيما يحاول مذهب
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً
  #10  
قديم 26/01/2011, 09:31 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

(4)

في الحكاية الفرويدية الكبرى عن أصل الإنسان ومصيره، عن معنى القلق والألم، في "طوطمته" للإبداع الإنساني، وفي رؤيته المابعد أوديبية للنشاط الروحي والعقلي الرفيع المسمى الفن، يصبح كل عمل أدبي أو لوحة تشكيلية محاولة للتغلب على "الكبت" الذي نشعر به إزاء غرائزنا الجنسية المسجونة في غياهب اللاوعي المظلمة. هل أصل القلق البشري هو الحرمان الجنسي؟ أهي ذات الفكرة التي ترافق الفرد منذ تفتح جسده وقت البلوغ على قدراته الجنسية حتى مرحلة الشيخوخة المتأخرة؟ نفس الفكرة تظل تراودنا بلا توقف؟ كيف يصبح توق الفرد للإبداع في سن الثمانين أو التسعين تعبيراً سافراً عن قمع رغبة حيوانية أولية اسمها الجنس؟ هل الخوف الأعظم في حياة الإنسان هو الموت قبل أن يشبع رغباته تلك؟

ينطوي التفسير الفرويدي للفن والحياة على تجاهل غريب لأهمية الموت، حتى لو كان التحليل النفسي قد تعرض له في عدة مواضع. الإنسان شيء آخر يختلف عن الحيوان أو الآلة. ليس هدف وجودنا الخضوع المطلق لإرادة الحياة ضمن الإطار الدارويني الذي فهمه هربرت سبنسر، ولكنه قد يكون أقرب للمعنى الذي قصده شوبنهاور في فلسفة الإرادة الكلية الشاملة للحياة. الخطأ الذي سقط فيه فرويد حين قرأ نيتشه أنه لم يتعامل مع شوبنهاور - المقدمة المنطقية لنيشتة - باعتبار أنه المؤسس الحقيقي لأي ميتافيزيقيا ممكنة عن الفن تتفق مع الوجود الإنساني الذاتي.

الخوف من الموت بحد ذاته طاقة غريزية ضخمة تستحق أن تحتل في ليبيدو فرويد مكان الجنس. لو وجد إنسان ما نفسه أمام طريقين وحيدين، أحدهما يقود لخلاصه من خطر الموت، والثاني لتجربة جنسية يليها الموت، فسوف يختار حتماً الطريق المفضي للخلاص دون المرور بالجنس. بهذا يختلف الإنسان جذرياً عن الحيوانات التي علمتنا ملاحظتها تجريبياً أن الكثير من أجناسها تموت بعد أن تلقح رفيقاتها. هي تموت لأنها تدرك أنها تركت في جسد الأنثى جوهرها الأساسي الذي سينتقل للأجيال التالية. الموت هنا مرحلة تكتيكية محضة لا تستحق أن نتوقف عندها. "الذات" Subject في السياق الحيواني لا تعيش في "الفرد" The Individual لكن في النوع. في بقاء النوع عبر التكاثر الجنسي الفعال يكمن التحقق الأسمى للذات.

لكن الإنسان يخشى حقاً الموت ويعده أقصى ما يمكن التفكير فيه، أو النهاية المنطقية لأي تفكير حيث ينعدم أي شي بعده. ما يميز تفكير الإنسان في هذه القضية، وغيرها من قضايا وجوده العديدة، هو درجة وعيه التي تفوق الوعي المفترض للحيوان بمصيره. يحاول الداروينيون السبنسريون إقناعنا بأن الجنس يمثل التعبير العميق عن رغبة الإنسان في التكاثر، وأن هذا التكاثر يشكل الأفق الأقصى لوجودنا The Ultimate Horizon of Existence، حيث ننجح في التغلب على الموت فقط لأننا نتتج أفراداً آخرين يتابعون الطريق حاملين اسمنا وأفكارنا ومبادئنا التي تلقنوها عبر عملية تربية طويلة يفترض أنها استمرت طوال حياتنا. في تأويل الجنس بهذه الطريقة يتفق الداروينيون مع ما بشر به شوبنهاور في نظرية الإرادة الكلية قبل داروين نفسه. اعتبر شوبنهاور أن أعنف تجلٍ لهذه الإرادة يتمظهر في إرادة التكاثر التي يتم تحقيقها - عملياً - بالجنس. لكن ما أهملته الداروينية في تطبيقها المتعسف على الوجود الإنساني هو الخصوصية الكبرى التي تجعل البشر شيئاً مختلفاً تماماً عن الحيوان، وذروة هذا الاختلاف تحديداً حيازتنا للوعي الفردي The Individual Consciousness. أهملت الداروينية هذا البعد الأساسي عن عمد وأسقطته من حساباتها لأن روح القرن التاسع عشر في عام 1859، عندما نشر داروين كتاب أصل الأنواع، لم تكن حينها تتفق مع افتراض وجود مكون لامادي غامض اسمه "الوعي". كانت ميكانيكا نيوتن في أوج عظمتها (حتى بعد الهزة العنيفة التي ولدتها نظرية ماكسويل في الكهرومغناطيسية في ستينات القرن التاسع عشر)، فقد كان الإيمان العميق بقدرة العلم الميكانيكي المحض على تفسير كل شيء، بما فيه الإنسان (الفرد) والمجموع الإنساني (المجتمع)، هو الدين الجديد الذي استبدلت به أوروبا المسيحية الكنسية السابقة والتي دامت قروناً عدة. ليس من الغريب إذن أن يطلع أوجست كونت بعد ذلك بقليل ليؤسس علم الاجتماع مستبعداً أي فرضية ميتافيزيقية غير مطلوبة، كالروح أو العقل أو الوعي، أو أن يخرج ماركس وإنجلز، في نفس الوقت تقريباً، بتفسير كلي وشامل للتاريخ على أساس صراع الطبقات من وجهة نظر اقتصادية مادية في جوهرها.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #11  
قديم 26/01/2011, 09:31 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

مكن العودة لما قبل شوبنهاور في تقصينا لجذور فكرة الوعي الإنساني في الفكر الأوروربي الحديث. صحيح أن البداية الحقة لهاته القضية الكونية يجب أن ترتبط - على الأقل - بالفلسفة اليونانية الما قبل سقراطية، لكننا سنحصر أنفسنا في هذه المقالة في اللحظة الحاسمة التي مثلتها فلسفة إيمانويل كانط النقدية.

يعد البناء النقدي المهيب الذي قدمه كانط Kant (1724 – 1804) للعقل في كتابه "نقد العقل المحض" سنة 1781 القمة القصوى التي وصلت إليها الفلسفة الغربية في عهد التنوير بمرحلة ما بعد نيوتن. تدور الأفكار الأساسية بكانط حول أسبقية العقل على كل ما عداه، وعلى وصف الطرق المعقدة التي تتفاعل بها الملكة النقدية مع العالم الخارجي عبر تحليل مدخلات ومخرجات البيانات الحسية. وضح كانط كيف أنه يوجد "عقل مشترك" يقوم بفرض مفهوم الفضاء والزمان بطريقة "قبلية"، أي قبل استقبال البيانات الحسية عبر الأعضاء الحسية.
دون الدخول في تفاصيل هذه الفلسفة، فإن ما يهمنا فعلاً في هذا المقام تأويل طبيعة هذا العقل المشترك في ضوء فهمنا للتجربة الإنسانية بكليتها. هل يوجد "العقل المشترك" في كل الأفراد بنفس الطريقة والكيفية؟ إذا كان هذا صحيحاً فإننا سنفقد على الفور إحساسنا بالفردية المميزة لكل عقل عما عداه. إن كان كل فرد يملك عقلاً محدداً خاصاً به، فكيف يمكن إذن بناء الصور الأساسية "القبلية" للمعرفة الكانطية إذا كان الفرد "يعالج" البيانات الحسية التي يستقبلها بطريقة تختلف عن الفرد الآخر الذي يملك عقلاً مختلفاً؟

جاء هيجل Hegel (1770–1831) فقدم حله المعروف لهذه الإشكالية بافتراض عقل كوني (الروح المطلق) موجود خارج الوجود المحدود للأفراد، وأن هذا العقل يتطور عبر التاريخ، من خلال الميكانيزم الديالكتيكي، ليصل لنهايته المحتمة بالكمال المطلق. من ناحية أخرى، كان فيخته Fetche(1762- 1814) قد أعلن قبل هيجل فلسفته التي تستجيب لإشكاليات كانط آخذاً بوجهة نظر معاكسة مؤكداً أن الوعي ينشأ في الفرد بمعزل عن أي خبرة خارجية. بهذا فإنه في فلسفة هيجل يكتسب الفرد وعيه الذاتي عبر حركة اتجاهها "من الخارج نحو الداخل"، بينما في نظام فيخته يوجد الوضع المعاكس، "من الداخل نحو الخارج"، فينشأ الوعي في الفرد بصورة مستقلة ثم ينتقل للعالم المفارق لتجربة الفرد. من المثير هنا ملاحظة كيف أن نظام هيجل، وهو بالأساس فلسفة تم تطبيقها على مسألة التطور التاريخي، منظومة "لاإنسانية"، بمعنى أنها تهمل الفرد في سبيل "الكل" أو "المجموع" الذي هو شيء يفوق الفرد.

انطلقت الفلسفة الوجودية، التي بدأت مع كيركيجارد Kierkegaard (1813- 1855)، سعياً لمقاومة هذا الاتجاه المضاد للوعي الفردي في فلسفة هيجل. ومن ناحية أخرى، يمكن النظر لشوبنهاور Schopenhauer (1788-1860) على أنه رد فعل مضاد لهيجل لكن في اتجاه يختلف تماماً عن ذلك الذي سار فيه فيخته. المهم هنا الطريقة التي تتمظهر بها الإرادة الكلية في فلسفته كقوة شاملة تشبه إلى حد كبير العقل المطلق عند هيجل، لكن في نفس الوقت دون إهمال الوعي الفردي للإنسان الذي ارتفع به شوبنهاور نحو القمة من خلال نظرية فريدة في العبقرية تنسجم مع ميتافيزيفيا عامة للفن.

في فلسفة شوبنهاور يصبح تطور الإنسان، عبر الإرادة الكلية للحياة، ليس مجرد إعادة إنتاج محضة للنوع من خلال التكاثر الجنسي، لأنه يوجد ضمن المجموع الإنساني الذي تطور إلى "أفراد" على درجة إحساس عميق بمصيرهم الفردي المأساوي المتمثل في الموت. هؤلاء الأفراد لا يقبلون بالجنس كحل لمشكلة الموت، بل يحاولون مقاومته عبر الفن. النشاط الفني، إذن، هو الأسلوب الذي ابتدعته فئة محدودة من البشر لمحاولة تجاوز النهاية الفجة التي يفرضها توقف الجسد بيولوجياً عن العمل. يمكن ملاحظة كيف يصف الكثيرون أعمالهم الأدبية أو الفكرية على أنها "أطفالهم" الذي سيحيون من بعدهم حاملين أسماءهم ومعتقداتهم. هي ذات الفكرة إذن في الإبداع الفني، شيء يشبه إلى حد كبير الجنس، لكن بينما يطمح هذا الأخير لمجرد إنتاج "نسخ" قريبة بقدر الإمكان من الأب، فإن العمل الفني يكتسب قوته وديمومته من خلاله تاريخية شاملة تحمل في طياتها روح العصر كله وبصماته، ليس فقط صفات خالقه.

الشرط الأولي الأهم لدفع فرد ما لاختيار الفن كطريقة لمقاومة الموت حيازته درجة رفيعة من الوعي الفردي أو الإحساس بالذات. هنا فقط سيرفض الفرد بعنف الحقيقة الإمبيريقية القائلة بموته، والتي يعجز عن إثباتها نظرياً، فيلجأ للفن كوسيلة لنفخ روحه ووجوده في إنتاجه الشخصي الذي سيستمر - كما يأمل - لأجيال عدة بعد موته.

في نظام هيجل كل شيء يتطور ضمن السيرورة الخاصة التي تتحرك بها الفكرة المطلقة الموجودة خارج الأفراد. بمعنى آخر، "نحن" ليس الشيء المهم لأن وعينا الفردي ما هو إلا تمثل للروح المطق في الفرد في مرحلة تاريخية عابرة. انظر كيف تشبه هذه الفكرة نظام داروين التطوري! إن داروين هو - مثل ماركس - النسخة المادية من فلسفة هيجل المثالية مطبقة على مشكلة الحياة البيولوجية. بالطريقة التي استلهم بها هربرت سبنسر داروين في حقل الداراسات السوسيولجية يتطور "النوع" (عند هيجل الروح المطلق)، أو المجتمع، عبر آليات الانتخاب الطبيعي (عند هيجل الديالكتيك) لينتج أفراداً أكثر ملاءمة للطبيعة (عند هيجل حركة التطور التاريخي المتجهة - صعوداً - نحو الكمال المطلق). أتوجد إذن أي أهمية لوعي فردي يحوزه شخص محدد وسط هذه الحركة الكلية الهائلة للمجموع بأكمله؟ إن وعي فرد بحد ذاته أنه سيموت لا أهمية له على الإطلاق طالما أن العملية الجنسية مستمرة في إنتاج أفراد جدد يدخلون بدورهم في ميكانزمات الانتقاء الطبيعي. لذا يموت الذكر في كثير من الأنواع الحيوانية بعد تلقيح أنثاه. في هذه الحالة المتطرفة يصبح المغزى النهائي لوجود الفرد حقيقة هو الجنس، وبممارسة العملية الجنسية تصل الحياة لنهايتها المنطقية، فيجيء الموت لأنه هو بالتحديد تلك النهاية المنطقية للحياة.

لكن الملاحظة المباشرة للحياة بالطريقة التي تسير بها فعلاً الأمور تؤدي بنا لنتيجة مخالفة لكل ما سبق. نحن نعلم أن غالبية البشر يحيون ويموتون دون أن يقدموا أعمالاً فنية خالدة، بل ينخرطون في الوتيرة الثابتة للزواج والإنجاب وتربية الأطفال ثم الموت حين تحين ساعتهم. يبقى الفن نشاطاً تقوم به فئة مختارة من الناس تهب حياتها لعملها الإبداعي وتغوص به في كليته المسيطرة التي تستهلك جميع طاقاته الإنسانية المحدودة. من هنا كانت نظرية شوبنهاور في العبقرية حلاً أصيلاً لهذا المأزق نفهم من خلاله عبارته القائلة بأن "في العبقرية تكمن الأرستقراطية الحقة للجنس البشري". الطبقة العلية The Elite هي التي تضطلع بالمهمة الكبرى لحفظ النوع لضمان استمراره. الفنانون هم المناط بهم إنقاذ النوع البشري من الانقراض، ليس بإنتاج نسخ بيولوجية أخرى لا تقدم ولا تؤخر، ولكن بإفراز مجموعة من الأعمال الفنية والفكرية التي بتراكمها ستشكل مع مرور الوقت المستودع الحقيقي للتجربة الإنسانية الغنية.

انظر لمدينة كبرى مثل فينيسيا. ما الذي تبقى من هذه التجربة البشرية على مر القرون؟ بنايات ومنازل وعمائر وقصور ومتاحف وجسور وحدائق. أتكمن شخصية المدينة في بيت محدد أو متحف أو كاتدرائية بعينها؟ الجواب: لا! ما يتبقى من فينيسيا في النهاية هو "النمط" The Style الذي تجلى في البناء المعماري وفي الشخوص المميزة لكل عمل فني تضمه المتاحف ودور العرض. هذا "النمط" الحضاري هو من إنتاج الفنانين والمفكرين والشعراء الذين أثروا تجربة المدينة على مر تاريخها الطويل، جاعلين من الحقائق المادية الفجة، المتراكمة في المعمار والمواد الأولية التي تركبت منها فيزيقياً الأعمال الفنية، جسماً حياً لا يموت. لقد انتصرت إرادة الحياة على الموت وقهرت حتمية "النهاية المنطقية للأشياء" المرتبطة بفكرة أننا سنموت بيولوجياً. لكن يجب أن نتذكر دوماً أن وراء هذا النصر فئة محدودة من البشر بينما الأغلبية تتحرك ضمن أدوار ثانوية، لوجستية على الأغلب، كتأمين استمرار الحياة في وقت البناء والتشييد بتزويد الفنانين والمفكرين - الطبقة الأرستقراطية الحقة - بالمواد الأولية والخدمات الإدارية والطبية التي يتم بواسطتها تنفيذ أفكارهم.

وكمثال آخر يوضح الفكرة السابقة، وإن كان بطريقة أكثر حدة، نجد في الأهرامات والمعابد الضخمة التي شيدها المصريون القدماء نموذجاً ساطعاً لرغبة الإنسان الملحة في مقاومة الموت والانتصار عليه. هنا يتجلى الوعي الفردي في شخص الفرعون، الحاكم المطلق أو نصف الإله، الذي يأبى الخضوع لفكرة الموت فيسخِّر عشرات الألوف من شعبه لتشييد صرح هو المكان الذي سيوارى فيه بعد موته. الطبقة الأرستقراطية الممثلة بالكهنة، من يملكون في المملكة القديمة أسرار المعرفة والفن، تتعاون مع الأوليكارجية المستبدة لبناء العمل الفني الخالد الذي يكفل لصاحبه البقاء أجيالاً. من المثير ملاحظة أنه في العصر الحالي ليس ما يشد انتباهنا في معجزة الهرم شخص الملك ذاته الذي أمر ببنائه، وإنما عبقرية المهندس - الكاهن، الذي أشرف على تصميمه وتنفيذه. الفنان هو الشخص الوحيد الذي يملك القدرة على تحويل طاقة الخوف العميق من الموت إلى واقع يتجاوز رمزياً قوانين البيولوجيا. كل العبيد والعمال الذين زودوا الفنان - المهندس بالقوة المادية المطلوبة لتحقيق العمل عاشوا وماتوا دون أن ينتجوا - إذا استثنينا أبناءهم وأحفادهم - ما يكفل لوجودهم الفردي البقاء. هم إذن جزء من القطيع العام للبشر الذي قاوم الموت بالجنس والتكاثر فلم يفلح في البقاء، بينما الأرستقراطية الحقة، الكهنة وليس الملوك، هي من حازت الخلود بواسطة الفن.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #12  
قديم 26/01/2011, 09:32 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

5)

يقود التأمل في مشكلة الموت الإنسان للتفكير في قضايا فلسفية كبرى ترتبط بتساؤلات - مريرة ومتشائمة أغلب الأحيان - عن معنى الوجود، مغزى الحياة، الهدف من البقاء، وهل توجد حياة أخرى بعد الموت أم لا؟. إنها الأطر الثابتة لما يمكن تسميته الوعي الديني في الإنسان، الجذر العميق في كل فرد، يلتصق به لحظة ولادته لكونه عضوا في "النوع الإنساني" دون أن يملك اختيار ذلك.

لكن إحدى أعظم لحظات التنوير الفكري التي انبعثت على يد عالم النفس والفيلسوف الألماني كارل جوستاف يونغ C. G. Jung كانت تلك التي دفعتنا لإدراك الخطأ الأساسي في اعتبار أن ما يسمى "الوعي" الديني هو شيء ينتمي لمملكة العقل الواعي The Conscious Mind. لقد بين يونغ في مؤلفاته العديدة أن الشعور الديني أولاً أصيل في النفس الإنسانية، وثانياً أنه جزء من عالم ما، أطلق عليه تعبير "اللاوعي الجماعي" The Collective Unconsciousness نشأ في عقل الفرد - أي فرد - في مرحلة سابقة موغلة في القدم اصطلح على تسميتها العقل البدائي أو الأولي The Primordial or Archaic Mind. هو ذاك العالم القديم الذي عاش فيه البشر في بداية حياتهم، حيث كل شيء أولي، فطري، تلقائي، و"طبيعي"، لا يتعلق بما نسميه الآن العقل المنطقي The Rational Mind. في هذا العقل اللاواعي، طبقاً ليونغ، تكمن القوالب الأولية Archetypes التي منها تتشكل البنية الكونية The Universal Structure للوجود الإنساني. في هذه القوالب يوجد ما هو مشترك بين إنسان وآخر. إنها لافردية كلية أو جماعية مطلقة، حيث يتصرف كل البشر وفق منطق تشاركي Communal Logic يوحد مظاهر الفكر والسلوك والعادات والطقوس والتقاليد.

إنطلاقاً من هذه المرحلة المشاعية، الابتداء العام للتجربة الإنسانية الشاملة، يأخذ اللاوعي الجماعي في التحول التدريجي منتقلاً من حالته تلك التي ينعدم فيها الإحساس الفردي، أو الوعي Consciousness، إلى وضعية أكثر تطوراً تتسم فيها النفس بدرجة مرتفعة من الشعور بالفردية، أي أن الوعي يأخذ في التخلق مبتدئاً من تلك الفوضى الأولية التي نسميها العقل البدائي. يسمى يونغ هذه العملية "التفرد" Individuation، وهي، وفقاً لنظريته، العملية الأكثر أهمية في سيكولوجية الإنسان.

من المثير ملاحظة كيف أن تلك العملية تقع في بعدين مختلفين تمام الاختلاف لكنهما مرتبطين أشد الارتباط في الوقت ذاته (1). البعد الأول هو الكوني The Universal، وفيه نفهم أن "المجموع البشري"، بكليته، يتحرك ضمن مرحلة جماعية، أسميناها العقل اللاواعي، حيث لا تمايز يذكر بين الأفراد الذي يشكلون هذا "الحساء" الأولي المتجانس. بعد ذلك تبدأ مناطق متفرقة من الحساء بالتكاثف والتلاصق، فتقترب أجزاء بعينها من أخرى لتشكل العلامات الأولى لكيان غير منتظم أو متجانس. تولد الفردية من تحطم التماثل الذي تمتع به الحساء الأولي، ومن الأجزاء المتفرقة المتكاثفة ينبثق العقل الواعي الذي يميز الإنسان عن القطيع.

أما البعد الثاني فهو الشخصي The Personal. كل إنسان في حد ذاته يعيش ذاك التحول الذي وصفناه في البعد الأول. عندما يولد الطفل فهو - بالتعريف - مشاع بدائي، حساء أولي، كذلك الذي عاشه الإنسان القديم. ثم مع تطور الحياة، أو ما يطلق عليه يونغ نظرية مراحل الحياة Stages of Life، يبدأ الفرد صراعه المستمر لتكوين وعي فردي ممايز لتلك المشاعية العامة المشتركة التي توجد في أي شخص آخر. إن ما نقوم به بالضبط في "كفاحنا" من أجل البقاء أن "نعي" أنفسنا، أن ننتصر على تجانس اللاوعي الجماعي الذي لا يسمح بوجود شخصية مستقلة في النفس، أن نحول حساءنا الأولي المتماثل إلى قطع متفرقة هي علامات لأعمق ما تمثله عواطف ومشاعر وأفكار الفرد. هذا هو "التفرد" بالمعنى اليونغي الذي من خلاله يولد الإنسان الفرد وغايته الوصول بمراحل الحياة لأقصى نهاياتها. بهذه النقطة بالذات يظهر تأثر يونغ الشديد، وإن كان لا يعلن ذلك، بفلسفة هيجل، حيث يؤكد يونغ أن الهدف الأسمى الذي يسعى إليه الإنسان عبر عملية "التفرد" هو الوصول للكلية The Wholeness الشاملة التي تعني اتحاد الوعي باللاوعي لتشكيل "الذات" The Self، ومن هنا يتولد الرابط المنطقي بين البعدين الشخصي والمنطقي.

كنا قد أقمنا الصلة سابقاً بين درجة تطور الوعي في الإنسان ومقدار شعوره بقضية الموت. دون شك فإن هذا يقود لاعتبار الموت مشكلة وجودية بالدرجة الأولى لأنها ترتبط بعالم الفرد الداخلي ومدى إضاءته لدنيا اللاوعي عبر الإدراك الواعي للقضايا الشخصية. الاستنتاج العام الذي يمكن التوصل له أن مشكلة الموت تتناسب طردياً مع درجة الوعي الذاتي بالنفس.
لتوضيح هذه العلاقة يكفي أن نتأمل التقنيات المختلفة التي توصل إليها علم العلاج النفسي Psychotherapy. ما هي الطريقة الأساسية التي يعالج بها الإخصائي النفسي مريضه؟ نحن نعلم أن التحليل هو الخطوة الأولى حيث يحاول المعالج، من خلال التفاعل مع الحالة تحت الدراسة، أن يتوصل لتفسير منطقي مترابط يشرح ويفسر ويتنبأ بمعظم البيانات المتعلقة بحياة المريض. بالطبع يتم بناء هذا التحليل وفق المدرسة السيكولوجية التي ينتمي إليها المعالج. المهم هنا أنه بغض النظر عما إذا كان هذا التحليل منطلقاً من أفكار فرويد أو إدلر أو يونغ أو غيرهم، فإن النهاية واحدة: "مواجهة" المريض بالتحليل المتوفر ومحاولة إقناعه بأنه يمثل أفضل وصف ممكن لحالته الراهنة. هذه "المواجهة" مبنية على افتراض جوهري في غاية الأهمية: إن "المعرفة" تولد الشفاء من المرض. عندما يحصل المريض على "المعرفة" التي توصل لها معالجه فمن المفترض أن تبدأ المرحلة الأولى في طريق التعافي النهائي من المرض النفسي. ما أريد التعليق عليه هنا هو الإطار الفلسفي لهذه العملية وليس الإكلينيكي الذي لا يرتبط بموضوع مقالتنا. إننا نفترض أنه بزيادة "معرفتنا" وفهمنا للعمليات السيكولوجية الداخلية فإن حياتنا تصبح أكثر استقراراً، وبالتالي أقل تعرضاً للاضطرابات النفسية المختلفة. يمكن بسهولة أن نستخلص الارتباط النظري الواضح بين هذه الفرضية وبين عملية "التفرد" Individuation اليونغية سالفة الذكر. "التفرد" يقود لعقل واع، في مرحلة تطورية متقدمةً، بحيث يمكنه إدراك جانب كبير من العمليات الأساسية للعقل اللاواعي التي تشكل، وفقاً ليونغ، المرجع الأصلي لأي إنسان في جذور تعود للعقل القديم The Archaic Mind. عندما "نعي" مشاكلنا الأركيولوجية المرتبطة بعلاقة مضطربة مع الأب، أو الأم، أو أحد أفراد العائلة، يمكننا أن نصبح مهيئين بشكل أفضل للتعامل مع الوضع السيكولوجي الحالي لحياتنا. إنها "المعرفة" المضافة لطبقات الوعي بالشخصية ما يزيدنا قوة ويمنحنا التحكم المطلوب في السلوك الذي يصدر عنا.

تتحقق ذروة هذا الوعي المستحدث، المرتبط بأي "معرفة" جديدة نحصِّلها عن ذاتنا Our Self، بحقيقة أنه سيدفع بنا – في نفس الوقت - لأزمة روحية ونفسية حادة قوامها التورط في تأمل مشكلة الموت. من هنا تبرز الإشكالية الأولى التي يجد إنسان العصر الحديث نفسه فيها: كلما ازدادت "معرفته" تضخم إحساسه بذاته، ينمو عقله الواعي، وتتفجر بالتالي إشكاليات نهاية الموت بكل تعقيداتها المنطقية التي تحدثنا عنها. تكمن هزلية الموقف كله في أن الطابع السحري الغريب "للمعرفة" الجديدة المضافة لخبرة الفرد حول ذاته، تلك التي كانت مسؤولة عن شفائه عبر العلاج النفسي، هو ذاته الطريق المفضي لاضطراب خطير في تصوره الشامل عن موقع الإنسان في الوجود. مشكلة الموت تستدعي حلاً مباشراً، لكن الحقائق البيولوجية الفجة للأشياء تفرض نهاية عنيفة لأي محاولة تبذل في هذا السبيل، وبالتالي يجد الإنسان ذاته، إن هو أخذ في التفكير جدياً في تلك المشكلة، أمام بوابة الشعور المرضي الذي يسبق الجنون، أو ربما - في ظروف أفضل - لتدين عميق ينقذه من الورطة كلها عبر افتراض إمكانية العودة للعالم الآخر.

كان آدم يحيا سعيداً في الجنة، فردوس عدن المفقود. سعادة جدنا الأعظم تلك هي بالضبط لأنه كان لا "يعلم" شيئاً. الإنسان، قبل أن يصبح حقيقة إنسانا، مخلوق من مادة أولية متجانسة تجهل كل ما يقع خارجها. الحياة في الجنة تعني أن نستهلك دون انقطاع موارد غير حسية (الإحساس ذاته لم يولد بعد)، لا تثير عبر امتصاصها أي بهجة أو لذة لأن مغزى وجود الإنسان في تلك الفترة أن يستهلك دون أن يستشعر معنى ما يفعله. إنه لا يعي بعد ذاته، هو كيان شامل من الفوضى الأولية حيث لا تمايز لأعضاء نفسية تتخصص في وظائف متباينة من الإحساس بالبهجة إلى الشعور بالألم. حقيقة أنه دون أن يملك الإنسان القدرة على الشعور بالألم أو الحرمان فلا معنى إطلاقاً للحديث عن شيء اسمه المتعة أو اللذة. لذا كان آدم يحيا كل يوم في الجنة حياة متصلة بلا انقطاع قوامها أن يظن نفسه سعيداً باستهلاك مورد لا ينضب من النعيم دون أدنى تذوق لأي شيء.

لكن الأمور تغيرت كلياً عندما أكل آدم من الشجرة المحرمة - شجرة المعرفة - فطرد من الجنة وهبط إلى الأرض، العالم الدنيوي، ومن ثم كان الميلاد الحقيقي للإنسان. انبثقت داخله شرارة الوعي الذاتي الضعيفة جداً، تلك التي كانت تكمن أصلاً في داخله منذ لحظة خلقه من طين (مادة) وتعلمه - على خلاف الملائكة - "الأسماء" أو القابلية الضمنية لأن يملك هذا الوعي بالمستقبل. وعندما ولد الوعي ظهرت قابلية الشعور بالألم، ومن ثم تولدت على الفور قابلية التذوق، لأن البهجة واللذة صارتا جزءاً نشطاً في كيانه المولود من جديد. المقابل الذي دفعه آدم للخروج من الجنة كان غالياً جداً: لقد صار من المحتم أن يموت في النهاية، كثمن لا بد منه لكونه يشعر بالأشياء ويعيها. ربما يمكن النظر لكل الأديان على أنها محاولة تعليم الإنسان وإقناعه بأنه بعد الموت سيعود مرة أخرى للفردوس المفقود الذي كان يحيا فيه.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #13  
قديم 26/01/2011, 09:32 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

6)

العصر الحالي هو عصر العلم. تهيمن التكنولوجيا، بإفرازاتها السوسيولجية المختلفة، على شتى مناحي الحياة. أصبحنا ندرك بشكل مذهل كيف نتحكم بالمادة من خلال "معرفة" في غاية الرقي بالقوانين الأساسية التي تضبط الطبيعة. قمنا بتطوير هذه "المعرفة" فأنتجنا، عبر العلوم التطبيقية، بناء فذاً من العمران والمواد الصناعية وشبكات الاتصالات والمواصلات، وفوق ذلك كله صرنا ننتج ونستهلك بجنون كماً غير محدود من "المعلومات". المجتمع الإنساني المعاصر هو شبكة فوق - إنسانية من خطوط نقل "المعلومات"، مرتبطة بكل جزئية في حياتنا اليومية، متطفلة على أخص عواطفنا ومشاعرنا وأفكارنا. هل ظفر الإنسان بالفردية الحقة التي يطمح إليها بالمعنى اليونغي لتطور مراحل الحياة عبر عملية "التفرد"؟ بعبارة أخرى: أهو الهدف الأسمى حقاً للإنسان العصر الحديث أن تنمو فرديته إلى الحد الذي تصبح فيه عنصراً شديد التمايز، نقطة في غاية السطوع، أو نجما وحيدا في سماء شديدة الظلمة؟

للأفكار الثورية التي جاء بها المفكر الفرنسي ميشيل فوكو Michel Foucault (1927-1984) وجهة نظر أخرى في الحالة الراهنة للإنسان المعاصر. ربما من الصعب جداً أن ندفع في سطور معدودة تلخيصاً وافياً للبناء المهيب للمنظومة الفوكوية في سعيها نحو تحليل "علاقات القوة" التي تتحكم بالسلوك البشري عبر شبكة خفية كلية تجعل من الفرد جزءاً تابعاً وليس متبوعاً كما يحلو لنا التصور أحياناً. تكمن الصعوبة في أن بناء فوكو ليس مجموعة من الأفكار، وإنما منهج أو أسلوب منهجي في التحليل التاريخي لتطور القوة عبر المجتمعات الغربية يختلف جذرياً عن أي شيء جاء به مفكر قبله. الدرس الأعظم الذي نتعلمه من فوكو هو أنه لا يوجد مفهوم إنساني "بريء" مستقل عن علاقات القوة التي أنتجته. كل ما نقوم به، نفكر فيه، نعتقد أنه جزء من إرادتنا الفردية "الحرة"، هو في الواقع استجابة إجبارية تفرضها علينا - دون أن نشعر - شبكة علاقات القوة المعنية. لا يوجد شخص أو أشخاص بعينهم وراء هذه الشبكة بحيث يتحكمون بكل الخيوط وفق "نظرية مؤامرة" كبرى، بل هي منظومة كلية، بمعنى أنها جزء من "روح العصر" ذاته، أو ما يسميه فوكو "الإبستمية" Episteme (2). يدل المصطلع على نظام عام من التفكير يرتبط بروح العصر ككل، متجاوزاً مجموع مكوناته السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بحيث ينتج القوالب الأساسية للغة والنحو الذي يستخدمه التفكير، والذي بدونه تنتفي إمكانية الفكر مباشرة. على سبيل المثال، إن النظام العام للعصر الحديث The Modern Episteme وفق فوكو ليس الرأسمالية، بل الرأسمالية ذاتها هي "نتيجة" يمكن فهمها من خلال النظام العام للمرحلة الإبستمية المرتبطة بما نسميه عادة الحداثة، وهو الذي يشكل الشروط المنطقية الممهدة لانبثاق هذا النظام الاقتصادي الخاص وليس العكس.

ما نريد تناوله في هذا الموضع هو إحدى النتائج الأساسية التي يستخلصها التحليل الفوكوي للنظام المعاصر. ذلك هو مفهوم "سقوط الفردية" Descending Individualism الذي يعد إحدى العلامات الفارقة التي تطبع عصرنا الحديث وتميزه عما سبقه. أفضل طريقة لتوضيح المفهوم أن ندخل بمثال عملي على الفور.
دعونا نتخيل أننا لا نحيا في العصر (الحديث) الحالي، وإنما في مرحلة سابقة تأتي قبل التصنيع والتطور الشامل الذي عصف بالحياة الاجتماعية في أوروبا مع ثورة نيوتن. المجتمع على الأغلب إقطاعي من الناحية الاقتصادية، ويرتبط بهذا النمط الخاص من الإنتاج نظام سياسي محدد يتمثل في الملكية الوراثية المطلقة المستندة لنظرية الحق الإلهي للملوك. يحوم حول النظام الملكي طبقة من النبلاء والأشراف الذين يكتسبون شرعية سياسية في المجتمع بفعل أرستقراطية متوارثة مبنية على الألقاب والدور العسكري للعائلة في خدمة الملكية والكنيسة. أما الدعامة الرئيسية الثانية للنظام فتتمثل في سلطة الكنيسة الكاثوليكة المركزية المتمحورة في مرجعية البابا العليا بروما. في مثل منظومة إبستمية كهذه، ما هو موقع الإنسان العام كفرد؟ كيف يمكن أن نصف تحول الشخص من كيان متجانس غير متميز إلى شخصية محددة تفرض وجودها الفردي في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي المحيط بها؟ بديهي أنه في ظل الظروف القمعية المتطرفة التي يفرضها وجود شخصية أعلى منك على الدوام، إن لم يكن الإقطاعي فالنبيل، وإن لم يكن النبيل فالملك، وإن لم يكن الملك فالبابا والكنيسة، فإنك ستفكر على الدوام في تلك الدونية التي تجعلك تابعاً ينفذ الجزء المطلوب منه لإدارة عجلة المجتمع دون أن يملك حتى حق التفكير في الرفض أو الإيجاب. في مثل ظروف كهذه يصبح كل شخص جزءاً تافهاً من "الكل"، وهو إن مات الآن في هذه اللحظة فلن يؤثر ذلك بأدنى شيء على الأداء العام للنظام الكلي للأشياء. من هنا نلحظ على الفور كيف ترتبط فكرة الموت بدرجة تطور الفردية في المجتمع. إن الإنسان الذي لا يمثل أي أهمية للنظام لن يفكر كثيراً في قضية الموت ولن تشغل باله. في الحقيقة لقد أمن له النظام ذاته، عبر شبكة علاقات القوة المعقدة، تفسيراً جاهزاً يرنو إليه كلما راودته خاطرة تأملية: الموت هو الخلاص المسيحي من الجسد الآثم وعودة لعالم الروح الحقة والخلود في الجنة. لا حاجة إذن لتأمل الموت على أنه قضية في حد ذاته، بل هو جزء تلقائي من طبيعة الأشياء لا سبيل لتغييره، بل الأفضل ألا توجد أصلاً إمكانية لتغييره.

في مثل هذا النظام "قبل الحديث"، يكمن الحلم الأعلى للإنسان، وهو يحلم فقط حين يكون لوحده ومن غير المسموح له مشاركة الآخرين أحلامه، في أن "يصعد" سلم الفردية، الذي هو أصلاً في قاعه، بحيث يصبح محط الأنظار بدلاً من كونه قطعة تافهة من الآلة الضخمة التي لن تتأثر باختفائه المفاجئ من الساحة. لو كنت سيداً في عصر يزدهر فيه الرق كنظام قانوني، وبينما تتناول شراباً في شرفة منزلك مر في الطريق "عبد"، واحد من هؤلاء الذين يملؤون الطرقات في زمانك، فإنك لن تبادر حتى بالالتفات إليه. إنك لن توجه إليه "نظرة محدقة" Gaze لأن العبد، كجسد وروح، قد تم أمثلته، من خلال شبكة علاقات القوة السائدة في المرحلة الإبستمية التي تنتمي لها، ليكون بالضبط هذا "اللاشيء"، "المجموع صفر" من الأهمية، عنصرا شبحيا لا وجود له على الإطلاق لأنه ليس من المفروض أن يراه أحد إلا إن كان ينتمي لنفس طبقته.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #14  
قديم 26/01/2011, 09:33 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

من تحليل كهذا يمكن فهم كيف كانت نساء العصر يتعرين أمام عبيدهن لأنهم في نظرهن "غير موجودين"، أشباح لا مرئية، لا يشكل وجودها الفيزيائي الفعلي أي قيمة سيكولوجية أو سوسيولوجية، بينما هؤلاء النسوة ذاتهن ستحمر خدودهن خجلاً ويركضن مذعورات لو أطل رأس رجل ينتمي لطبقتهن "العليا". هذا "الاخفاء" المتعمد لأفراد الطبقة الدنيا، بواسطة تقنية "عدم التحديق" فيهم، تم تطويره بالتدريج حتى صار جزءاً من وسائل ما يطلق عليه ميشيل فوكو "النظرة المحدقة كتكنولوجيا سيطرة وإخضاع توظفها شبكة علاقات القوى" Gaze as a technology of regulation used by the system of power relations حيث يفتقد معظم البشر، في ما دون المستوى المهيمن من القوة، فرديتهم لأنه بالضبط غير مسموح لهم تطوير ذلك الموقف الخاص الذي يثير فينا تلقائياً - في ميكانيزم سيكولوجي لاواع – شعوراً جارفاً بالفردية عند تلقي "النظرة المحدقة". ترتفع بالتالي قيمتك الاجتماعية إذا حدق فيك أكبر عدد من البشر بينما أنت تسير في الطريق العام. ومن هنا نفهم كيف أن الملك - القمة الأعلى في الهرم السياسي والاجتماعي المسيطر - هو الشخص الذي يحصد أكبر قسط من الاهتمام، أو "النظرات المحدقة"، عند مروره في الطريق العام.

لكن ماذا عن الوضع المقابل في ما نسميه المرحلة الإبستمية الحديثة؟ مع مرور العقود المتعاقبة في القرن العشرين، بدأ التطور العمراني والمدني والصناعي ينتقل تدريجياً من تقوقعه التاريخي الطويل، في إطار ثابت لا يتغير من صيغ تمليها التقاليد وأنظمة القيم المتوارثة، إلى حالة مختلفة جذرياً أقل ما توصف به أنها ديناميكية متغيرة بتسارع غير مسبوق في تاريخ الجنس البشري. تحديداً، فقد قفز التطور التكنولوجي لحياة البشر خلال المائة عام الأخيرة بوتيرة تفوق ما تراكم عبر آلاف السنين. تحديداً، في العشرين سنة السابقة دخلت الحضارة الغربية ما يطلق عليه فريدريك جمسن Fredric Jameson ما بعد حداثة الرأسمالية المتأخرةPostmodernism of Late Capitalism (3). ورغم أن "الرأسمالية المتأخرة" (4) شيء تحدثت عنه كتابات ماركس المبكرة، كطور متوقع في تطرف التصنيع بمراحله المتقدمة تاريخياً، إلا أن ما تمخضت عنه ثورة الاتصالات والمعلومات غير المسبوقة هو - دون شك - تطور يستحيل على الاشتراكيين الأرسوذكس الأوائل التنبأ به. لقد كانت الطبيعة الخاصة في هذا التغير الأخير في النظام الرأسمالي، وليس حدوث التغير في حد ذاته، ما دفع بالوضع الكوني للدرجة المقاربة على الانفجار الذي صرنا نشعر به في العقود الأخيرة بصورة متزايدة. بات الهم الأوحد للإنسان ما حرصت الرأسمالية بشدة منذ بداياتها على أن تكون عليه الحال: مقارعة جبروت النظام العنيف "للطبيعة" (كما تتمثل في أكثر صورها رومانسية بالشركات العابرة للقارات) والهدف هو تحقيق غرض في غاية النبل والارتفاع: البقاء على قيد الحياة.

وبغض النظر - مؤقتاً - عن الفجوة العظيمة، والآخذة يوميا في الاتساع بين الفقير والغني، فقد بات المواطن "العادي"، أو المتوسط، في الدول الغربية الصناعية الكبرى يكافح فعلاً من أجل هذا "البقاء"، وإن كان المدلول المباشر للكلمة يختلف "قليلاً" عما تعنيه الحروف ذاتها فيما أسماه الغرب "العالم الثالث". لا زال نظام العمل الأساسي يتألف من ثماني ساعات في خمسة (أو ستة) أيام في الأسبوع. مصادر الترفيه متوفرة ومؤمنة لكنها تحتاج لقوة مالية لا تقل عن حد معين، والمال يحتاج مزيداً من العمل في وظيفة أفضل وأكثر استقراراً. ولما كانت وتيرة الأحداث في "الرأسمالية المتأخرة" Late Capitalism قد طورت من البنية الرئيسية للمجتمع جاعلة إياها "ذكية" Intelligent، قادرة على تحريك ذاتها بذاتها، فقد قل الاعتماد الفعلي على الطاقة البشرية المباشرة، أو بالاصطلاح الماركسي القديم جداً "قوى العمال" Labor Power، فصار ما يحتاج الفرد لبذله من أجل "متابعة" كل ما يستجد في سماء الإبداع الذكي والأخلاقي للرأسمالية جهداً عنيفاً متزايداً يوماً بعد يوم. العودة للمنزل بعد يوم عمل طويل مشحون بالتوتر العنيف الذي بات يميز الكل في هذه المرحلة، الوقت القصير الذي يقضيه الرجل أو المرأة كلاهما مع الآخر (أو مع الأطفال إن أمكن طبعاً)، ثم محاولة القيام بشيء ما في عطلة نهاية الأسبوع غير تنظيف البيت، أو تناول شراب في حانة المدينة مع الأصدقاء، أو الخروج في "نزهة" مع العائلة أو الأصدقاء صارت في حد ذاتها روتيناً جديداً يضاف لأيام العمل الخمسة في الأسبوع السابق. ومع بداية الأسبوع الجديد يتحرك الرجال والنساء والأطفال لمقرات أعمالهم التي تبدأ في الثامنة صباحاً.

هل يملك إنسان "الرأسمالية المتأخرة" وقتاً للتفكير في الموت؟ ربما في الإجابة على هذا السؤال يمكننا فهم التناقض الشاذ في سلوك الإنسان الغربي نحو الموت. إنه يتحرك بحياته اليومية على أساس اغتنام أكبر قسط ممكن من المتعة واللذة الصناعية التي تؤمنها له "شركات متخصصة"، وهو في نفس الوقت مشغول حقاً بالعمل ليعتقد أنه حصل على اللذة المطلوبة في الزمن القصير جداً المتبقي من حياته في نهاية الأسبوع. الآن، هذا الرجل يتعامل مع الموت، كحقيقة واقعة قد تظهر نفسها بشكل عنيف في رحيل مفاجئ لأحد الأصدقاء أو الأقرباء، ببرود مثير للنفور والإعجاب في آن واحد. إنه يبدو كمن لا يرى الموت ولا يعبأ به رغم أن جوهر حياته بالضبط أن "الحياة قصيرة" Life is Short ويجب العمل بسرعة لاغتنام أكبر قدر ممكن من الفرص قبل أن تأتي النهاية المحتومة. وهذا كله موقف ولدته طبيعة النظام الإبستمي الحديث، من خلال شبكة علاقات القوى المنتشرة في كل زاوية، وليس الإيمان الديني العميق "بالحياة الأخرى"، ذلك الذي يميز بحق الشعوب القاطنة في النصف الشرقي من الكرة الأرضية.

إذا عدنا للتحليل الفوكوي للموقف نجد الإنسان المعاصر محبوساً داخل جدران ما قلنا أنه أسماه "سقوط الفردية". على العكس تماماً من المرحلة السابقة، فإن الفرد الحديث يحاول طوال الوقت أن ينأى بذاته الجديدة، المكتسبة عبر عملية "التفرد" اليونغية، عن الإخضاع المنظم الذي تفرضه "النظرة المحدقة" Gaze. الفرد الحديث لا يريد أن يبقى أسيراً للشعور المتصل بأنه تحت أنظار النظام. من هنا كان الكابوس الأرويلي المتكرر الذي يظهر من حين لآخر في الأعمال السينمائية الغربية عن "الأخ الأكبر" Big Brother، الذي يسجل عليك خطواتك، ويعلم دوماً متى وإلى أين تذهب، ويعد أنفاسك حتى وأنت في الفراش مع رفيقتك. الإنسان المعاصر يريد أن يتحرك بحرية دون أن يكون جزءاً من الحياة العلنية التي يراقبها الآخرون عبر وسائط شبكة المعلومات الكونية المتغلغلة في كل مكان. من هنا فإن القمة القصوى التي كان يمثلها الملك في المرحلة الإبستمية السابقة، بكونه الشخص الأكثر تعرضاً للضوء، تصبح هي بالتحديد "القاع" في حياة الفرد الحديث وذلك الموقف الذي ينبغي تجنبه بشتى الوسائل. هذا لا يعني أن لا أحد يتعرض لعدسة النظام المكبرة، بل على العكس، فإننا نجد في وسائل الإعلام عرضاً مستمراً للحياة الخاصة لنجوم السينما والسياسة الذين تتم "عولمتهم" بواسطة تسليط "النظرة المحدقة" على سلوكهم اليومي. يجلس الفرد الحديث وراء الأطراف الإليكترونية النائية لشبكة المعلومات الكونية ويستمتع بكونه ليس الشخص الموجود على الشاشة أمامه. إنه لا يريد أن يلتقطه السيستم فيمنعه من التفرغ لحياته الشخصية وهو بالكاد ينجح في التقاط فتات الترفيه الذي تؤمنه المنظومة الرأسمالية الصناعية. لقد صار "التفرد" في العصر الحالي رديفاً إذن لسقوط الفرد وليس العكس.

ورغم ذلك "فالنظرات المحدقة" هي الأسلوب الأساسي الذي لا تزال تمارسه شبكة علاقات القوى المنتشرة في كل مكان بطريقة متصلة لإخضاع أفراد المجتمع للمنظومة القيمية السائدة. إن صور عارضات الأزياء على الأغلفة الخارجية للمجلات الشعبية، بأجسادهن النحيلة جداً، هي بالضبط "نظرة محدقة" تعمل على إخضاع النساء في المجتمع الحديث لما تتطلبه ممارسة الذوق العام للجمال، وهو هنا جمال الجسد المادي لا أكثر. أن تكون أكثر جاذبية جنسياً يعني أن تتخلص الفتاة من كل كيلوغرام "زائد" في جسدها. المثير هنا أن علاقات القوى هي التي ألصقت القيمة "زائدة" بهذا الكيلوغرام، فألزمت بالتالي الأفراد بالتحرك وفق ما تمليه الإرادة الكلية للمجموع، وليس الاقتناع الشخصي الذي لا قيمة له هنا. يمكن أن نستمر في ضرب عشرات الأمثلة المختلفة التي تصب كلها في نفس النتيجة التي وصل إليها مثال عارضات الأزياء السابق: يتحرك الفرد ليتحاشى التنظيم المخضع "للنظرات المحدقة" لكنه يعمل تماماً - دون أن يشعر - بالطريقة التي تمليها تكنولوجيا السيطرة على الجسد بالمعنى الفوكوي (5).

وهكذا يجد الإنسان الحديث نفسه محصوراً في الفراغ الضيق الذي يفصل طرفي كماشة هائلة. فمن جانب تقود عملية "التفرد" Individuation اليونغية الإنسان لإحساس متزايد بفرديته وانفصال عقله اللاواعي عن الواعي. يصبح الفرد أكثر قرباً من الكمال الهيجلي المطلق، ما يسميه يونغ "الذات" The Self، والذي يضعنا في الطرف المقابل البعيد عن الإنسان الأول ذي العقل المتجانس والمحكوم بكليات اللاوعي الجماعي. لكن التحليل الفوكوي للوضع النهائي نفسه، عن الإنسان في العصر الحديث، يقول بأننا "نسقط" كلما تم تسليط الضوء على وعينا الفردي الجديد المكتسب، وأن عملية "التفرد" تأخذ الإنسان نحو الخضوع المطلق لشبكة علاقات القوى المسيطرة التي تسحق ذاتيته عبر جعلها المادة المتداولة في وسائط الإعلام الكونية. هذا هو المأزق العنيف الذي يلخص حال إنسان العصر الحديث، وهو دون شك جزء أساسي من الأزمة الروحية الكبرى في الغرب.

إذا كان "التفرد" عملية تفضي إلى وعي متزايد بالقدرات الداخلية، وإلى تأمل أكثر حساسية فيما تفرضه الخصوصية الجديدة المكتسبة في دنيا الاستبصار المتصل للذات الشخصية، فإن النتيجة التي حتماً ستقود إليها هذه الحساسية المتصاعدة هي - كما أسلفنا - اعتبار الموت الخطر الأعظم الذي يتهدد وجودنا. الشخصية المشاعية الأولى، أو الإنسان القديم، لا تخشى الموت لأنها جزء كلي من النظام الذي يدرك تماماً أنه لا يموت عندما تنتهي الحياة البيولوجية لأحد أفراده. الإنسان في هذا الموضع هو تماماً هذا النظام أو السيستم العام. لكننا في حياتنا المعاصرة نواجه "سقوط الفردية" Descending Individualism كميكانيزم معاكس يثير فزعنا من الفردية ذاتها التي قمنا بتحصيلها عبر مراكمة التطور العلمي والفكري خلال بضعة القرون الأخيرة التي تشكل المرحلة الإبستمية الحديثة. هذا الخوف من أن نصبح جزءاً مكشوفاً من السيستم يدفع الفرد إلى الإحساس الكاذب باللامبالاة نحو الموت التي نلحظها في الإنسان الغربي عندما يتعامل مع الحقيقة العنيفة للأشياء في المآتم والجنازات. لقد طور إذن شخصية مركبة تعمل وفق عقدة خوف هستيري من الموت وشعور قوي باللامبالاة نحوه في ذات الوقت. وكأي عقدة نفسية أخرى، فهي تضع الفرد في موقف لا يحسد عليه إذ يظل طوال حياته أسير قوى متناقضة تدفع به في اتجاهات متعاكسة قد تفضي إلى خلل أو اضطراب يفوق الهامش الذي يسمح به السيستم في تصنيفه لمن يسميهم "العقلاء" و"المجانين". إذا أخطأ الفرد في حركته شبه العشوائية بين مراكز الثقل النفسي المتصارعة وعبر الخط الرقيق جداً الذي يفصل بين الفئتين يكون قد خرج من اللعبة خاسراً، وتنتهي حياته فعلياً قبل اللحظة الحاسمة بتوقف جسده بيولوجياً عن العمل.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #15  
قديم 26/01/2011, 09:34 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

(7)

على الرغم من أن الموت لحن سائد في كل البقاع المتوحشة التي استوطنها البشر، في أصقاع الشمال وصحارى الجنوب، وفي الشرق القديم والغرب البري المكتشف حديثاً، إلا أن قلة محدودة استطاعت أن تطاول ببصيرة نافذة السر الأعظم الذي يكمن في فلسفة حيوية لا تعرف التشاؤم، قوامها أن الحياة فعلاً تستحق أن تعاش، وأننا مهما طال بنا الزمن ندب على ظهر هذه الأرض فنحن حتماً في النهاية مغادرون. أإلى عالم آخر؟ أهي بداية الطريق الآخذ بنا صعوداً نحو الفردوس المفقود؟ أم أنها مملكة تحت الأرض، شديدة الظلمة كما تصورها الإغريق، حيث تنتفي - للأبد - الحساسية الإنسانية الفريدة القادرة على تذوق الألم واللذة؟

في رحلة الإنسان الغربي نحو ما يسميه "المعرفة"، تلك التي بدأت حقاً مع لحظة نيوتن الجليلة، بعشرات الطرق والممرات والأنفاق الملتوية المجهولة النهايات، في البحث الكوني عن "الكوني" والكلي، في معاناة بلايين البشر الذي لم يكونوا هناك.. في سهول انجلترا الخضراء كما تغنى وليم بليك.. يشاركون المعلم الأكبر لحظة اكتشاف "قوانين الطبيعة": العلامة الفارقة لكل شيء عما عداه في النصف الجنوبي والشرقي من العالم، عبر غبار سكك الحديد والقنوات المائية التي حملت أساطيل العمال ومود البناء والأخشاب عبر الأرياف الغارقة في النوم منذ الأزل، محملة بأشباه بشر وبقايا نظام أخلاقي عمره عدد لا يحصى من السنين، في هذا العالم المعاصر المكتظ بأشباح تحمل هوية إليكترونية وشفرة تفتح أبواب مدن ذهب الأنكا: ثورة المعلومات والخصوصية المتطرفة لكل فرد يشاهده أصدقاؤه - في أي وقت - وهو يقضي حاجته وكيف ينام، في هذا العالم، أو ما يشبه العالم البشري حيث يسود "القانون"، كيف يمكن لنا الوقوف لبرهة، ننسى الدقائق الضائعة من ساعات العمل الثمان، نرفع رأسنا للسماء السوداء، أو بالأحرى نتنفس كلمات طاغور الأخيرة وهو يقول:
أيها الموت
يا موتي
آخر إنجازات حياتي
تعال، وتحدث إلي همساً
لقد انتظرتك يوماً بعد يوم
وتحملت من أجلك
أفراح الحياة وأتراحها
وجميع ما يكونني
وكل ما أملك
وكل ما أرجو
تدفقت نحوك في سر عميق
نظرة أخيرة من عينيك
ستجعل حياتي كلها لك
لقد ضفرت الزهور
وهيء أكليل العريس
وبعد الزفاف
ستترك العروس بيتها
وتذهب وحدها
لمقابلة سيدها
في وحدة الليل.

لا يزال السؤال مفتوحاً، والدعوة موجهة للجميع، في الغرب أو الشرق، البحث المجنون للبشرية عن هوية في الكون المعاصر، قتل وتدمير مدن لتحيا مدن أخرى في نصف الأرض النائي في محيط آسن من اللذة، ودعوة رجل من آسيا العجوز، قديم جداً حتى كأنه أتى من مرحلة ما قبل التاريخ لكنه عاش بين ظهرانينا في هذا الزمان، همهم بالجواب على شكل أنشودة غناها شعراً.
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #16  
قديم 26/01/2011, 09:34 PM
صورة عضوية سرب
سرب سرب غير متصل حالياً
مشرفة سبلة الفكر والحوار الثقافي
 
تاريخ الانضمام: 23/06/2007
الإقامة: سلطنة عمان
الجنس: أنثى
المشاركات: 4,626
افتراضي


موضوع رائع أختي الوقت..

سأحتفظ به في ملفاتي كي أقرأه على مهل.......
__________________
بركة السماء : أمطارا يا مصر ...
أم الدنيا ،

http://www.youtube.com/watch?v=RHTIKlfZ5-o
  #17  
قديم 26/01/2011, 09:44 PM
الوقـــت الوقـــت غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 11/01/2008
الإقامة: .............
الجنس: أنثى
المشاركات: 937
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة سرب مشاهدة المشاركات

موضوع رائع أختي الوقت..

سأحتفظ به في ملفاتي كي أقرأه على مهل.......
أشكرك ..
__________________
ما الوقت ُ ملكي لأملكه ، وما تمنيَّتُ إلا أن أحيزَ دقته .. سلطته .. شيئًا من سطوته ..
  #18  
قديم 27/01/2011, 06:06 PM
أختصار أختصار غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 20/01/2011
الإقامة: عمان
الجنس: ذكر
المشاركات: 27
افتراضي

جميل
يستحق وقفة متمهلة....

شكرا/ سأقرأه لاحقا ربما
__________________
لا يوجد مثلي...
  #19  
قديم 28/01/2011, 02:44 PM
صورة عضوية خالد المنعي
خالد المنعي خالد المنعي غير متصل حالياً
عضو فوق العادة
 
تاريخ الانضمام: 12/02/2008
الإقامة: العين دار الزين
الجنس: ذكر
المشاركات: 12,557
افتراضي

شكرا على النقل
مقال زاخر بالمعلومات
الموت هو نهاية الحياة كما أعرفها!
__________________



هل في عقول الملحدين غباءُ؟ أم في عيون الجاحدين عماءُ؟!

أيُجوز عقلاً أنّ عقلاً مبدعاً قد أبدعته طبيعةٌ بلهاءُ؟!

فإذا الطبيعة أدركتْ وتصرّفَتْ قلنا الطبيعة والإله سواء

الله أحيى الكائنات بسره وبسره تتفاعل الاشياء
  #20  
قديم 30/01/2011, 12:40 PM
أبو يوسف العامري أبو يوسف العامري غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 07/09/2010
الإقامة: عمان
الجنس: ذكر
المشاركات: 147
افتراضي

أشكرك أختي
إن الموت هو الحقيقة الوحيدة التي يؤمن بها جميع البشر
  #21  
قديم 31/01/2011, 09:04 PM
صورة عضوية هدى
هدى هدى غير متصل حالياً
عضو مميز
 
تاريخ الانضمام: 07/04/2007
الجنس: أنثى
المشاركات: 1,185
افتراضي

" الموت أهون مما بعده وأشد مما قبله "
__________________
" رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ " (إبراهيم، 41)

فَلا تَغُرَّنَّكَ الدُّنْيــا وَزِينَتُها =وانْظُرْ إلى فِعْلِهــا في الأَهْلِ والوَطَنِ
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
أنماط العرض

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى

مواضيع مشابهه
الموضوع كاتب الموضوع القسم الردود آخر مشاركة
ما وراء الإنساني، ما بعد المنطقي ... سعيد مكي الوقـــت سبلة الثقافة والفكر 15 29/07/2010 12:27 AM
ماهي الاسباب والمسببات وراء وراء خصم 3نقاط من اهلي سداب النقاش مفتوح لنصل الى الحقيقة القاتل101 السبلة الرياضية 22 28/03/2009 09:01 AM
رسالة إلى الضمير الإنساني فارس الكلمة السبلة الدينية 4 07/01/2009 10:36 AM
نحن الطلاب وراء الكتب أم هم وراء مكاتبهم ؟؟ شقي-الشوارع السبلة العامة 3 21/12/2008 01:15 PM
الواجب الإنساني يناديكم abusayufm السبلة العامة 1 03/03/2008 10:03 PM



جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 03:56 PM.

سبلة عمان :: السنة ، اليوم
لا تمثل المواضيع المطروحة في سبلة عُمان رأيها، إنما تحمل وجهة نظر كاتبها