~~~ قيمـــــة الرياضيــــات ~~~

[ماجد الهادي]

قيمة الرياضيات

المقدمة: نعرف الرياضيات بالمفهوم المتداول هي علم عقلي مجرد يقوم على البرهان والدلائل المشاهدة على أرض الوقائع وعلى الظاهر والمرأى من الحواس البشرية، و يختلف هي بذلك عن العلوم التجريبية التي تقوم على أساس التجربة وعرض النتائج واستخلاصها ، غير أن الرياضيات اليوم أمكن أن نقول بأنها تحتل مكانة الصدارة بين العلوم المختلفة التي لا تستطيع الاستغناء عنها أو تقوم هي بالانفصال عنها أو الحيلولة دون الالتصاق بها ، و اكتسب قيمة كبيرة، ففي ماذا تتمثل هذه القيمة التي تكون عليها الرياضيات؟ إذا عرفنا أن الرياضيات هي علم مجرد لا يدرس لذاته وإنما من خلال ما يستخلص من القياس به ، نتساءل نحن هنا إلى أي مدى يمكن أن نتحدث عن قيمة الرياضيات والى أي مدى نستخلص العلاقة التي تكون هي عليها مع باقي العلوم الأخرى المكتسبة من خلال التجربة بما أن الرياضيات هي أيضاً تجارب مختلفة في الأعداد؟



التحليل:تدرس الرياضيات وتختص هي بالمفاهيم الكمية المجردة القابلة للقياس والتي أمكن أن نستخلص العلاقات الدائرة بين الأشياء المختلفة من ناحية بروز القياسات الموضوعية عليها ، بطابع عقلي بحت مجرد يبحث عن أساس تحكيم الأعداد والأرقام ، الأمر الذي مكنها من الوصول إلى نتائج دقيقة وواضحة ولا يمكن أن تتلبس لأنها الحلول هي مواضع معروفه عند كل مدرك لها ومعرف لموضعها، تنتج عن المقدمات بطريقة اضطرارية وجوبيه، مما يضفي عليها نوعا من الصرامة المنطقية التي تقومّ العقل، وتجعله لا تقع في الخطأ ويكون الخطأ بعيد عنه كل البعد لان الدلائل هي واضحة وبينه . فإذا قلنا أن 4=2+2=1+1 كانت 4=1+1+1+1 بالضرورة وأيضاً لا يمكن أن نقول أن جمع تفاحتان لا يساوي اثنان حاصل الجمع بينهما لان المعطيات التي أمامنا هي معطيات حسية يدركها العقل ويدرك ما هيتها التي تكون عليها .

هذه الصرامة هي التي من خلالها ومن خلال طريقها قد تجعل الرياضيات تمتاز وتتمايز بشكل ملحوظ ولافت عن غيرها من العلوم الأخرى ، فالرياضيات بمفهوميتها هذه قد جعلت أفلاطون يفتتن بها فدعا إلى إدخالها ببرنامج إعداد حكام المستقبل ، وقد قام بجعلها شرطا أساسيا للدخول إلى أكاديميته المعهودة ، غير أن قيمة الرياضيات بما تتصف به لم تبرز بالشكل أو الهيئات الذي نعرفها اليوم في المناهج والأدوات المدرسية ، إلا بعد دخولها عالم الطبيعة المحيطة بهذا الإنسان والتي قد جعلته يفكر بمحورها بشكل متفرد ، وأصبحت القوانين الفيزيائية المعاصرة والتي تشاهد من خلال الواقع تصاغ وتوضع على شكل علاقة رياضية دقيقة وفريدة ، هذه الدقة وهذه الملاحظة المستفيضة التي تعتبر شرط المعرفة العلمية. يرجع تاريخ دخول الرياضيات مجال الفيزياء إلى القرن السابع عشر بفضل أعمال كيبلار الذي قد قام بصياغة قانون سقوط الأجسام على الطبيعة ، و ديكارت الفيلسوف الألماني الذي قد قدر حركة الكواكب تقديرا كميا متوازياً ، حينها أدرك هذا الإنسان انه لن يتمكن من الغوص في أعماق الطبيعة الغامضة ، للكشف عن أسرارها الدفينة والمشفرة ، إلا إذا تعامل معها بلغة رياضية بحته يكتشف بها الغموض ويحاول ان يطلق لفكره العنان في البحث ولتبحث وعمل العلاقة الرياضية في سبيل يبر أغوارها الكامنة في غموضها المبهم هذا . يقول غاليلي:" الطبيعة لا تجيب إلا عن الأسئلة المطروحة عليها بلغة رياضية ".

إن الرياضيات عنده هي اللغة التي من خلالها نقدر أو نحاول أن نتفهم الطبيعة من حولنا، و بدون الرياضيات ليس هناك مجال رحب نقدر به أن نقوم للحديث عن الفيزياء بشكل يسير وسلس ، هكذا يقول برانشفيك "إذا فقدت الفيزياء طابع التقدير الكمي للظواهر المحيطة بها ، فإنها قد تصير مجرد إحساس وشعور نظري بكيفيات قابلة ولها قابلية للوصف لا غير "، فالفيزياء عنده بدون رياضيات تصف ظواهرها ، و الوصف هنا هو أدب و ليس علما ومنطق منكشف ، كذلك قد دخلت الرياضيات مجال الكيمياء على يد الكيميائي الفرنسي لافوازيه بحيث قد أحسن توظيفها في مجال الكيمياء و مجال البيولوجيا على يد مندل الذي عرف كيفيه توظيف الرياضيات في مجال الكيمياء بشكل يسير ، حين أنه قد وضع قوانين الوراثة في هذا الجانب واستفاد من المعادلات الرياضية في سبر أغوار القانون الوراثي ، وأصبحت البيولوجيا لا تستعمل الرياضيات فحسب و أنما قد أصبحت تتضمنها.

إن النجاح الكبير الذي قد تم إحرازه عن طريق علوم المادة في استخلاص العلاقات بصيغ كمية رياضية ، مكنها من التحكم في الكثير من الظواهر المختلفة التي تحيط بها ، مما قد جعل العلوم الإنسانية تعمل بدورها على إدخال الرياضيات مجالها وفي استخلاص العلاقات الرياضية الكمية بين المادة وعناصرها ـ لتقترب من الدقة التي تمكنها من الانضمام إلى مجموعة العلوم ومن استبيان ومعرفه العلاقة الوطيدة بين الأسس المعادلية الرياضية التي من خلالها أمكن الاقتراب كما أسلفنا من الدقة والموضوعية القريبة من الواقع ولهذا أمكن أن توصف الرياضيات واحدة من العلوم المنهجية التي في تدريسها أمكن الاستفادة منها . فاستخلصت قوانين صياغتها على شكل معادلات رياضية بحته وسلسة الحلول والاقتراب من تحصيل النتائج منها، أو القيام بعمل مخططات بيانية توضح وتبين الأسس التي من خلالها أمكن الانطلاق في الفهم والاستيعاب للعناصر المكونة للمادة ، أو نسب مئوية تستوضح النتائج والقيم كما نرى في الإحصاء ، الذي يعتمد عليه الباحثون في علم الاجتماع البشري وحتى الحيواني . لا احد يستطيع أن ينكر اليوم ذلك ، ونحن في القرن الواحد و العشرين عصر التطور الكبير الذي قد حضيت به الرياضيات ..

يجعلها هنا ندرك القيمة الكبيرة المتمثلة للرياضيات وعلومها ، التي بموجبها قد مكنتنا من احتلال مكانة الصدارة بين العلوم و المعارف جميعها وبمختلف تصنيفاتها . وقد كانت ثقة الإنسان المفكر في الرياضيات كوسيلة لبلوغ الحقيقة التي لطالما ما حلم بها طويلا على أمد وسيع ، لا يتخللها شك أو ريب ولا اختلال، بفضل لغة الأعداد الواضحة ، وما تمتاز به من الدقة النظرية في وقوعها على أرض الواقع . إن التقدم المذهل و النجاح الكبير الذي قد حظيت به التكنولوجيا المعاصرة في حضارتنا المادية هذه هو ليس إلا برهانا قطعي الدلاله على صحة الرياضيات ، وعنوان صدقها وحجم فائدتها التي تبينها الوقائع ، مما يمكننا من القول مع برانسفيك:" أن العمل الحر الخصب للفكر، يبدأ من العصر الذي جاءت فيه الرياضيات، فزودت الإنسان بالمعيار الصحيح للحقيقة " لا يستعمل الإنسان الأعداد هذه فقط في العلوم المختلفة و التكنولوجيا فحسب، وإنما يستعملها أيضا في شبه حياته اليومية، لتكون أكثر دقة و انضباطا واصطلاحاً، وأصبحت مقولة الفيثاغورثيين " الأعداد تهيمن على العالم " ليست خيالا أو شيء من نصب هذا الخيال الجامح ، و إنما واقع يعيشه الإنسان الآن ، يجعله يتعرف بقيمة الرياضيات و فضلها عليه. ويقيس بها الأهمية التي قد كانت ولا تزال عليها الرياضيات في الحياة العامة والخاصة والتوفيق بها وما لها من امتيازات تستبان عن طريق القيم التي تكون عليها ..

لكن ماذا إذا توقفها قليلا وجعلنا القارب يتوقف عند الجزيرة القريبة منه، ونظرنا إلى الرياضيات وقيمه على إنه كعلم قائم بذاته وهو منفصل عن العلوم ؟ هل يمكن أو من الإمكان أن تكون لها، في حد ذاتها، نفس القيمة التي اكتسبتها كونها وسيلة وغاية في ذات الوقت ؟ و هل نحن هنا متأكدون منه إن قيمة الرياضيات قد اكتسبت قيمتها لما تم استعمالها من قبل العلوم الأخرى كلغة تتكلم بها وتتحدث بموجبها ، وإن دعوة التي د ذهب إليها البعض من المعجبين والمشغوفين والهائمين بها إلى دراستها وتعريفها كغاية في حد ذاتها، مثلما درس المنطق الصوري المتمثل في الفرضيات النظرية كغاية في ذاته في القرون الوسطى الغابرة ، خطأ كبير يحدث وهذا الخطأ يجعل مصيرها في هذا العصر نفس مصير الذي آلت إليه الميتافيزيقا اليوم . ولا يعني هذا أننا هنا نقوم بالتقليل من شأن الميتافيزيقا ، ولكن ما نعنيه أن الإنسان اليوم وهو في كامل انفجاره المعرفي المتشعب المتكاثر في كل لحظة وحين ، والمتشبع بالروح الوضعية، قد لا يولي اهتماما كبيرا بها ويضعها كعلم مجرد بعيد عن الواقع الذي يعيش هو به ، بالرغم من النداءات التي قد كانت كثيرة من الفلاسفة الذين حاولوا أن يردوا لها اعتبارها في زمن العلم و التكنولوجيا. وأهميتها التي بموجبها قد أرتقت بعالم البشرية المعرفية من الظلمات إلى النور المعرفي بسبب احتوائها على التجريد وعلى وضع المعادلات التي تحلل الوقائع وتزيد من التوصل إلى الحلول النظرية لها وقد نقلت الفكرة من واقع النظرية إلى واقع التجربة .

هل الرياضيات نقد أن نقول بأنها بمعزل عن العلوم الأخرى ؟ إنها تعتبر في كينونتها علاقة عقلية مجردة واقعية ترتبط وتربط منطقيا بين القضايا المختلفة ، أليست الميتافيزيقا هذه هي تعتبر علاقات عقلية مجردة تربط منطقيا ببعضها البعض في تجريد الوقائع والأحداث المتلاحقة ؟ نحن هنا لا نعتقد بأن الرياضيات كعلم مجرد نظري تطبيقي هو بمعزل عن العلوم الاخرى لأنها ستجد من يهتم بها وبشأنها سوى من بعض المعجبين بها الذين يجدون فيها متعة خالصة متمثله في مقاربتها من أرض الواقع في النظر إلى الأشياء والعلاقة الكامنة بينها . أما عن قول فردناند :أن بالعمليات الرياضية وحدها يمكن الكشف عن أسرار الطبيعة الغامضة ، يضفي على الرياضيات طابعا سحريا ومكانيا على أفكار العامة من البشر، وهو بالتالي يبعدها عن الواقع وما يحدث به من تقلبات ومتغيرات متسارعة بكل صنف من صنوف الحياة المعاصرة . إن الرياضيات كقيمه وكعلم نظري تجريدي لا تستطيع بطبيعة الحال معرفة الطبيعة المحيطة بها إلا إذا اتصلت بها اتصال مباشر بلا وسيط . وهو دخول الرياضيات وقيمتها مجال الفيزياء " و عقلنة الطبيعة المحيطة بها " لا يعني هنا بطبيعة الحال أن الرياضي يمكنه أن يعمد إلى نوع من التأهيل العقلي النظري ليصل به الى معرفة أسرار الكون الفسيح ، بل بالعكس معرفة الطبيعة تكون بفضل التجربة النظرية الواقعية التي تكشف عن أسباب الظواهر المختلفة ، ثم تتدخل قيمة الرياضيات، بعد ذلك، ليتم التعبير عنها بلغة الأعداد الدقيقة . إن الإنسان لا يدرس الرياضيات كغاية تبررها الوسائل المختلفة ، وإنما هو هنا يدرسها كوسيلة محدده تستعملها العلوم المختلفة بعد كشفها عن العلاقات بين الظواهر المتنوعة التي تحيط بفكر واضعها على أرض الواقع ، لتعبر عنها بعد ذلك بأسلوب الكم المتبع في الحساب الرياضي البحت . لنقل أن الرياضيات هي في قيمتها هذه تعتبر خادمة للعلوم الأخرى ، التي هي سيدتها.

و يجدر بنا هنا أن نشير إلى كون الرياضيات بفكرها المعاصر وتطابقها النظري التحليلي هي وسيلة العلوم الأخرى وطريقها للوصول إلى الحقيقة ، وهو لا ينفي عنها كل قيمة في ذاتها أو ذاتيتها المعروفه. فإن الرياضيات ويقيمتها هذه تعتبر بحق أفضل و أنسب علم يعلم العقل كيفية تجريد أفكاره و تقديمها في تسلسل منطقي محكم ومبطن ومنشئ . فتعرف هذا الإنسان بالخفايا الكامنة عقله وخفايا فكره التي يتبحر به في فضاء الأحداث المتلاطمة ، و قدرته على الغوص والتعمق في الغوص في أعماق هذا العالم المجرد غوص يتصف بالعمق الدفين . وإذا كانت العلوم تعلمنا حقيقة الطبيعة هذه التي تحبط بنا ، فإن الرياضيات تعلمنا حقيقة الفكر المجرد وإبحاره المختلفة الطعم والرائحة الفكرية..

أما التهمة التي وجهت إليها والتصقت بها، على أنها مجرد قضايا عقلية مجردة بعيدة عن الواقع ، فيمكن ردها فيما يلي : إن الرياضيات اليوم تبدو متلائمة مع الواقع المعايش بحيث سهولة المعادلات المؤدية الى اكتشاف الحقائق المختلفة. يقول لوتمان:" إن التصورات الرياضية تتمثل ككائنات عقلانية يضعها العقل في تلاؤم مع الطبيعة و الكون ". و الدليل أن تصورات ريمان للمكان وجدت عالما يناسبها في الفيزياء إنشتاين التي تطبقها والعمليات النسبية التي تؤيد نظريات إنشتاين ولكن البعد النظري الفكري قد حال دون الاستفادة الكبيرة للرياضيات بالنسبة لأينشتاين .