|
||
#1
|
|||
|
|||
ظاهرة التسقيط في الخطاب الثقافي ( مقالي في جريدة عمان )
اثناء الحرب الباردة التي اندلعت بعد الحرب العالمية الثانية بين الدول التي تتبع المنظومة الشيوعية في الحكم والفلسفة وبين دول الغرب الرأسمالية، كانت تهمة الشيوعية أو الدعوة إليها والترويج لأفكارها تكفي لإسقاط أي مفكر أو فنان في الولايات المتحدة الامريكية والغرب وربما تتسبب في دخوله السجن أيضا لفترات طويلة وهكذا كان الأمر في الدول الشيوعية حيث كانت تهمة الرأسمالية او البرجوازية تلاحق الكثيرين من اعضاء المكاتب السياسية واللجان المركزية للأحزاب الشيوعية الحاكمة في تلك البلدان وتسببت في إقصاء الكثير من مواقع المسؤولية ومراكز القرار هناك وإرسال الكثير منهم إلى المقصلة .
ولم يختلف الوضع في البلدان العربية فقد كانت الاتهامات بالرجعية والانتهازية والشيوعية تسود الخطاب السياسي بين الأنظمة والاحزاب السياسية المختلفة وانتقل هذا الداء إلى المفكرين العرب من ذوي الميول الفكرية المختلفة وبدأنا نقرأ عن تداول مصطلحات غريبة في حقل التداول الثقافي كان الدهر قد اكل عليها وشرب مثل الشعوبية والردة الثقافية والزندقة والصفوية وغيرها . والتسقيط من الفعل سقط، أي انحدر وهوى من درجة عليا إلى سفلى أو أدني. وفي الاصطلاح، معناها الحط من قدر شخص ومكانته الاجتماعية أو الدينية أو السياسية، أو العلمية أو التاريخية إلى درجة أدنى. وبالتالي فهو إسقاط أو نفي الخصائص الحسنة المرغوبة لدى المجتمع في هذا المجال أو ذاك. ويقتضي ذلك بالضرورة التنافس على نفس الدور والمكانة، سواء بين صاحب الادعاء أو الفئة التي يمثلها والتي تناظر فئة ومذهب وتوجه الشخص المفترى عليه. ( 1) والتسقيط الثقافي هنا هو إلصاق تهمة شنيعة بالآخرين بغض النظر عما إذا كانت صحيحة أو غير صحيحة والترويج لدى الخاص والعام ومختلف وسائل الإعلام بانهم يؤمنون بمبادىء لا يعتقدون بها ولكن نظرا إلى إن الاعتقاد بتلك المبادىء ربما يساهم في اعتقاد المسقطين باسقاطهم سواء من الناحية الفكرية أو الشخصية أو الاجتماعية أو حتى السياسية فإن ذلك يكفي في نظرهم لإلصاقهم بها مثل اتهام الأخرين بالعلمانية والليبرالية في المجتمعات المحافظة وبالأصولية والتطرف الديني في المجتمعات التي تتبنى الفكر العلماني فالتهمة تتغير حسب نوع الفكر السائد في المجتمع ليكون مضادا له حتى تكتسب مشروعيتها الاخلاقية في التسقيط . وسوف أضرب مثلا هنا بمن يدعو إلى العدالة الاجتماعية وترسيخ قيم العدالة والروح الجماعية في المجتمع. فإن المعارضين لهذا الشخص لا يترددون في اتهامه بالشيوعية أو اعتناق المبادىء الاشتراكية ورأينا كيف اتهم المفكر المصري سيد قطب بالاشتراكية بعد تأليفه كتاب " العدالة الاجتماعية في الإسلام " بل ان الاتهام بالاشتراكية طال أيضا صحابيا كبيرا وهو أبو ذر الغفاري بسبب رأيه في كنز الأموال، وهو الرأي الذي تسبب ـ في حينه ـ في نفيه إلى الربذه . لقد حفل تاريخ الفكر الإسلامي بشواهد متعددة من عمليات تسقيط المفكرين وتشويه سمعتهم الفكرية عبر نسبة بعض العقائد إليهم وهم أبرياء منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب فعندما خرج الجعد بن درهم عن سلطة الخلافة الأموية ودعا إلى تحكيم الكتاب والسنة رأت السلطة الأموية بأنه من غير الممكن محاكمة الرجل وفق هذا الاتهام لأنه يخرج الدولة الاموية عن شرعيتها الإسلامية وإنها تمثل الخلافة الشرعية للمسلمين على اختلاف مذاهبهم وأفكارهم فعمد والي العراق حينها خالد القسري إلى القبض عليه وقتله بطريقة بشعة وقال مبررا لقتله " أيها الناس ! ضحوا يقبل الله ضحاياكم، فإني مضح بالجعد بن درهم، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا، ولم يكلم موسى تكليما، تعالى الله عما يقول الجعد علوا كبيرا. ثم نزل فذبحه في أصل المنبر " ( 2 ) وكانت الاتهامات بالتجهم والرفض والنصب والحشو تسود الاتجاه الفكري آنذاك، وطال التسقيط شخصيات فقهية كبيرة مثل الإمام ابي حنيفة الذي اتهم بالأخذ بالرأي ورد احاديث الرسول باجتهادات شخصية حتى ان عالما وفقيها كبيرا مثل الخطيب البغدادي الشافعي خصص فصولا بأكملها من كتابه " تاريخ بغداد " لذم ابي حنيفة وتسقيطه فقهيا وعقديا وقد قتل الإمام النسائي في دمشق لتصنيفه كتابا في فضائل علي بن أبي طالب وهو كتاب " خصائص علي " واتهم بالتشيع وكانت دمشق تحت الحكم الأموي آنذاك . يتبع
__________________
وقد صار قلبي قابلا كل صورة * * * فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لنيران وكعبة طائف * * * وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت *** ركائبه فالحب ديني وإيماني العارف الأكبر محي الدين بن عربي |
أدوات الموضوع | البحث في الموضوع |
أنماط العرض | |
|
|
مواضيع مشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | القسم | الردود | آخر مشاركة |
الهوية القاتلة ... مقالي في جريدة الدار الكويتية | صالح عبدالله البلوشي | سبلة الفكر والحوار الثقافي | 27 | 01/01/2011 09:39 PM |
التسامح مبدأ إنساني .... مقالي في جريدة عمان اليوم | صالح عبدالله البلوشي | سبلة الفكر والحوار الثقافي | 240 | 19/12/2010 10:29 AM |
افتتاح صالون سبلة عمان الثقافي بعيون جريدة الرؤيه | خط ال18 | السبلة العامة | 18 | 08/05/2010 05:17 PM |
نقد الخطاب الثقافي الحديث | منهل الرئيسي | سبلة الثقافة والفكر | 19 | 23/05/2009 08:28 PM |
حول خطاب صاحب الجلالة (تأسيسية الخطاب وسيف العدالة وسياسة المراجعة) .. منقول من جريدة عمان .. لمحمد الحجري | allomany | سبلة السياسة والاقتصاد | 4 | 28/11/2008 12:42 AM |