سبلة عمان
سبلة عُمان أرشيف سبلة العرب وصلات البحث

العودة   سبلة عمان » السبلة الثقافية » أرشيف السبلة الثقافية » سبلة الثقافة والفكر

ملاحظات \ آخر الأخبار

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع أنماط العرض
  #1  
قديم 24/12/2006, 06:37 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
Smile رحلــة النيـلـوفر أو آخر الأمـوييـــــن

رحلــة النيـلـوفر أو آخر الأمـوييـــــن
بقلم الكاتب: وليد الحجار
مقدمة

ماذا يفعل المرء إذا ما قادته الظروف لاكتشاف الجريمة الكاملة؟!
بماذا يجيب، إذا ما تصّدى له أحدهم بقوله: "وكيف تكون هذه الجريمة كاملة، وأنت، بحسب ادعائك، قد كشفت سرّها؟!"
لكنها لكذلك!! جريمة فكرية مروّعة!! تفوق غرابة أحداثها الوصف!! تسربت سمومها خفية عبر أذهاننا، وتمركزت في مصادر النقي في حياتنا الفكرية جزءاً منها حتى استحال البتر، وأصبح الرجاء الوحيد يقع في معجزة بات المرضى أنفسهم ألدّ أعدائها!!
فراس.. هجر الشرق في رواية "مسافر بلا حقائب".. بحثاً عن الحضارة المثلى وخاب ظنه فيما وجده في الغرب من أسس آلية لحضارة استهلاكية براقة، جوفاء، ينذر كبار فلاسفتها بانهيارها! ثم عاش أحداث وفضائح مجتمعات المال والحكم، في الشرق الحديث، في رواية "السقوط إلى أعلى".. في عالم مركزه بيروت. تنبأ لصورتها آنذاك بالانهيار منذ أواخر الستينات!
ها هو فراس، يعود إلى دمشق في "رحلة النيلوفر.." في محاولة لمدّ جذوره في ترابٍ جُبل جسده منه، يعود إلى أزقة المدينة القديمة، لا سائحاً، مستظرفاً قدمها.. بل "آخرالأمويين" باكياً على ما كان لها من بهاءٍ، شاهد مثله في أزقة ودروب مدن الأندلس الشاميّة.. ينعم بها الأسبان، حتى اليوم، في قرطبة، وإشبيلية، وغرناطة!!


المؤلّف



مقاطع مختارة من الرواية

القسم الأول

(ص32-34)

{- لكنك تعلم، ولا بد، أن عدد المناهضين للنظرية العرقية، بين المثقفين، على الأقل، أكبر بكثير من عدد أنصارها!
هز فراس رأسه، نزقاً.. ورد على الفور:-
- إنك تخطئ مرة أخرى، فأنا لا تهمني صحة النظرية العرقية، أو عدمها، فهي لشدة سخفها، لا تستحق البحث.. إني إنما أتكلم عن طريقة ولادة هذه النظرية..! وتحولها، في أذهان العامة، ولدى الجزء الأكبر من الخاصة! وذلك، عن طريق كلمة، أطلقت جزافا، تسمية لشيء، ولها في الوقت ذاته جذور تمتد في مجال آخر.!
فإذا بالناس يتيهون عن الهدف الأصل، وينتقلون، عبر المعنى الثاني لهذه الكلمة، إلى مجالٍ آخر، يسقطونه على المسمى.. فتُنقل التسمية، عبر هذه الجسور، من اسم، لعدد من اللغات.. إلى تعريف لعرق إنسانيّ!!
هز "شارل غوستاف" رأسه، كمن لم يستوعب تماماً معنى ما سمع.. وفي الوقت نفسه، بدا كأنه لا يود أن يستزيد صديقه مما يسمع.. لكنه لم يلبث أن سأل.. متردداً..
- وهل لما تقول من نتائج.. غير الذي ذكرت؟..
أذكّرك على سبيل المثال.. بعشرات التسميات التي يحلو لعلماء الآثار أن يطلقوها على ما يكتشفونه في الشرق من حفريات..!"آرامي"، "كلداني"، "حتي"، "فينيقي"، "آشوري"، "بابلي"، "سومري"، "آكادي"، "فرعوني"، الخ.. كل هذه التسميات، لبضع مئات الوف البشر.. من أصل واحد.. كانت تنتقل على دفعات، بين حدود جغرافية تكاد تكون محدودة! وهي، بدءاً من الجنوب، في شبه الجزيرة العربية، إلى جبال طوروس.. سعياً وراء منابع المياه، والكلأ.. ثم جنوباً، على طريق الساحل والأنهار، حتى مياه النيل..! وهل غريب أن يكون لهجرات وتنقلات هذه الأمة الواحدة، لهجات متفاوتة، إذا تناءت؟.. وأن تبني لقراها، ومدنها، حصوناً، لتحميها من غزو القريب، والغريب؟! ألم تكن، هذه، حال أوربا، حتى القرن الثامن عشر؟! ما معنى أن يلقّب اليوم من عاش من الناس، منذ ألفي عام من عرب، بالشعوب البابلية، أو الأكادية، أو السومرية.. ومن عاش منهم في سوريا، وعلى سواحلها، بالكنعانيين، وبالفينيقيين.. وكل هذه تسميات لم تشتق في الأصل إلا من اسم لهجة، أو لكنة، أو اسم قرية، أو ملك..
ما معنى أن نؤكد الاختلافات في طريقة معيشة هؤلاء.. فنقول: إنه كان لكل منهم لغة، وحضارة، تختلف عن الأخرى؟ حتى إذا رجعنا إلى مرجع آخر.. وجدنا علماء التاريخ يقولون إن هؤلاء "الفينيقيين" مثلاً، إنما انتقلوا إلى تلك السواحل، بعد هجرات متعددة، من اليمن، والبحرين، وأن سكان اليمن، والبحرين، كانوا، وما زالوا، عرباً، حتى اليوم؟! قل لي بربك.. لماذا تختفي تسمية "عرب" عن هذه الشعوب، متى تجاوزوا، في هجراتهم، بادية الشام؟!
صمت فراس هنيهة ثم ضحك ساخراً وتابع..
- لا شك أن للغرب عيناً ساهرة تخاف وحدة العرب، والإسلام! بعثت بمستشرقيها أمثال "دوساسي" و"رينان".. ولجأت إلى أسلوب الغرب المفضل، في إطلاق التسميات المتعددة الأهداف! فإذا لكل بقايا جدران قرية ما.. "جيش".. و"ملك"!! و لكل مدينة.. "مدنيّة" و"حضارات"!! ولكل اختلاف بسيط في اللهجة، أو في أسلوب الكتابة، اسم جديد للغة جديدة!! مخالف تماماً، لاسم اللغة، التي تتكلمها الشعوب نفسها، والتي تفرق بعضها عن بعض مئات من الكيلومترات!!

سأل "شارل"، متعجباً..
- أتود القول: إن كل هذه التسميات التي ذكرت، إنما تشمل أمة واحدة؟! وحضارة واحدة؟!
قال فراس، كمن يضبط صوته، كي لا يصيح في وجه صديقه..
- حضارة واحدة.. على قدر ما تقول اليوم إن للغرب حضارة واحدة في أوربا!.. هل تقولون اليوم، في أوربا: "حضارة الغرب"، أم.. "حضارة إيطاليا".. و"حضارة انكلترا".. أو "بلجيكا".. أو حضارة "فرنسا".. الخ؟.. إن اللغة اللاتينية قد تفرعت إلى لهجات تطورت، وصار عنها كل من اللغات الإيطالية، والفرنسية، والإسبانية، و البرتغالية! ورغم ذلك، فإنكم، حتى اليوم، تلقبون هذه اللغات، باللغات اللاتينية!.. وحضارتها، بالحضارة الغربية! لو أن الحياة توقفت، فجأة، في أوربا، اليوم.. وجاء علماء الآثار، بعد ألفي عام، ينقبون بين آثارها، فهل ترى أنه يحق لهم تسمية ما كتب من "الهجات" الإيطالية، "لغات"؟! وإذا وجدوا أن "ميلانو" كانت تتكلم الإيطالية، وباريس، الفرنسية.. فهل يحق لهم، الكلام عن حضارة "ميلانية".. وأخرى "باريسية"؟! وهل ترى اليوم أن بينهما اختلافاً حضارياً يذكر؟!
- لئن كان الأمر على هذه البساطة المنطقية.. فلابدّ أن الكثيرين غيرك يعرفون هذه الحقائق.. فعلام تثور؟!
- ليس المهم أن يعرفها بعض المثقفين.. إنهم لا يجرؤون على المجاهرة بها، خوفاً من أن يتهموا بالخروج على قواعد سنها، ودرج عليها علماؤكم، من المستشرقين، طوال قرنين من الزمان!!
- أنتم إذاً أمة واحدة؟.. ولكم حضارة واحدة، منذ آلاف السنين! فلماذا هذا التناحر والاقتتال إذاً.. لماذا لا تتوحدون؟ ..ها؟!
- وأنتم.. أبناء الديانة الواحدة، والحضارة الواحدة، في أوربا.. أين تناحرنا نحن.. من حروبكم؟! وأين حروبنا .. من مجازركم؟!
صمت الصديقان برهة ثم ضحك "شارل غوستاف" وقال..
- صحيح.. أن ضحايا الحرب العالمية الثانية وحدها بلغت الخمسين مليوناً من البشر.. ولا أظن أن ضحايا حروبكم على مدى التاريخ، بلغت مثل هذا الرقم المريع!!.. قم، تعال!.. لقد سئمت الجلوس.. لنتمشّ نحو الساحة الإسبانية.. إن لي بعض الحاجات أود شراءها من شارع " الفراتينا"..}
  مادة إعلانية
  #2  
قديم 24/12/2006, 06:40 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
Smile

(ص76-77)

{ خيم صمت طويل على الصديقين.. طار خلاله خيال فراس إلى الماضي.. إلى الجزائر.. إلى يوم جرى فيه حديث بينهما في القصبة..
كان عثمان الوسيم إذ ذاك قد تربع أمامه على بساط مقهى عربي أليف.. تتوقد عيناه الخضراوان بعشق الوطن.. لا يرى من سبيل لإنقاذه إلا بندقية المجاهد.. وكشف أسرار العدو العسكرية!.. وهاهو ذا عثمان الآن.. وقد زاده الزمان خبرة، ومراناً.. لقد أدرك أن الذين أنقذوا الوطن مرّة لا يحسنون إدارته، ولا يستطيعون إنقاذه مرّتين لقد تبين له أن الذين طردوا المستعمر، يكادون يصبحون من حيث لا يدرون أعداء الوطن الجدد!.. لكنّ سبيل عثمان ما زال على ما كان!.. إنه اليوم يسعى وراء السلاح المتطوّر.. والعقول المخططة!!
ماذا يقول له؟! ودّ لو يقول.."لا ياعثمان.. لاأيها المجاهد!! إن العقول المخططة لا تقبل بأن تحرّكها أنت، ومن وراءك، من المخلصين!.. إن للعقول المتطورة الواعية خططها وأهدافها، هي.. ولن تقبل أن تقودك إلى حيث تشاء!!"
".. لسوف تحصل على هذا السلاح، لكنّ هذه العقول لن تسير معك بهذا السلاح، إلا بمقدار.. لقد مضت سنوات على حريّة بلادك.. لقد كان عليك أن تزرع فيها هذه العقول.. لتحصدها الآن!.. ماذا فعلت بثروات بلادك، كيف هدرتها؟.. لقد ابتعت بها سلاحاً يتحول إلى نفايات، خلال سنوات قلائل!.. كان عليك أن تحرث الأرض، لتزرع فيها من باستطاعته فهم وإنتاج هذا السلاح! أليس هذا ما فعلته اليابان إثر صحوتها؟! وشعبك على ما هو.. أميّ ما زال يجهل كيف يستعمل السلاح! إن أمتنا لا تخلو من هذه العقول، لكنها منفيّة، مشردة في بلاد الله الواسعة.. طردْتَها أنت، ورفاقك، في يوم من الأيام!.. حين كنت في غمرة حماستك.. ونقمتك على الذين ترفعوا على آبائك وأجدادك من المظلومين!.. إنك لا تلتفت لضمّ هؤلاء إلى صفّك.. إنك لا تلتفت إلى استرجاع هذه العقول إلى وطنها!.. إنك ما زلت تكرهها، وتخافها!.. فأنت تظن أن الوطنية وقف على أصحاب الأكفّ الغليظة، والأصوات العميقة الرنانة!.. إنك لا تثق بأحد!.. لا تثق إلا بطائفتك، أو عشيرتك!! وبالرغم من كلّ ذلك.. فإني سأقول لك اليوم ما قلته لك بالأمس.. سأنفذّ ما تطلبه مني بحذافيره، ولو تعرّضت حياتي للخطر.. لاشكّ أنها لعنة التاريخ، أو أنه التاريخ، فحسب؟!.. أمثالك، من حفاة الماضي وأبطاله، صادقون! صاروا حكّام اليوم.. لكنهم ما يزالون لا يعرفون "غرناطة".. ولا فلاسفتها!!.. يظنون أنّ غرناطة هي القصور والمال، والعيش الرغيد!.. وأمثالي يا عثمان، تعيسون، ما زالوا لا يعرفون سوى الكلام، والقلم.. لا يحسنون استعمال السلاح المتطوّر.. وليس من يسعى إلى اقتنائه في أمتنا، إلا أنت!"}
  #3  
قديم 24/12/2006, 06:41 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

(ص103)

{أمضى فراس ليلة مع تلك الكتب، لن ينساها زمناً طويلاً!.. أخذ يخرجها من وكرها، كتاباً، كتاباً.. ينفض الغبار عنها.. يتصفحها، في تمعنٍ.. يتسّلى بمطالعة بضع صفحات من كل ما يجده منها، مما طبع أو نسخ بالانكليزية، أوالفرنسية، أوالإيطالية أوالإسبانية.. وكان منها ما بدا له ثميناً.. يرجع تاريخ طباعته إلى زمن بعيد.. ومنها ما نسخ باليد، بحروفٍ قوطيّة تتضمن زينة، ونمنمات جميلة..
ما كاد يصل إلى قعر الصندوق حتى فوجئ بعلبة خشبيةٍ صغيرة تربض على أرضه.. كشف غطاءها، وإذا هو أمام غلافاتٍ جلديةٍ.. فتحها، فبهت إذ طالعته مخطوطات عربية قديمة.. راح يتفحصها بلهفة من وجد أثراً فنيّاً غطّاه التراب منذ غابر الأزمان!
راودته فكرة الاتصال بصاحب المسكن، على الفور، ليسمح له بترتيب تلك الكتب خارج صندوقها المتآكل.. فتنبه إلى أن الليل قد ولّى.. وأن الوقت شارف أولى ساعات الصباح! فأزمع إرجاء ما اعتزم، إلى اليومَ التالي، وهم أن يعيد المخطوطات العربية إلى مكانها، داخل مخبئها الصغير.. وإذا ببضع صفحات مبعثرة، داخل الصندوق، أثار انتباهه منها، ما بان من كتابات عليها.. رفعها، وإذا هي عنوانات لمخطوطات، محفوظة، في غير هذا المكان!.. أدرك أنه أمام فهرس، أو بضع صفحات بالية من ذلك الفهرس، فنقل ناظريه بين محتوياته، حتى توقفا فوق اسم "عبد الرحمن بن خلدون".. وإذا هو يقرأ بين العناوين المتفرقة..
"خلاصة النظر في فلسفة العبر"
ماذا؟! مؤلف.. على مثل هذا العنوان الفلسفي لابن خلدون؟! هل يعقل ذلك؟! كان يعلم بوجود مخطوطات لابن خلدون.. مؤلفات، لها جميع ما قرأه من عناوين.. عدا "خلاصة النظر في فلسفة العبر" !! كيف لم يسمع به؟.. أو يقرأ عنه؟! وهو المعجب بابن خلدون، القارئ لجميع ما كتبه هذا المفكر الفذ! ثم ما حقيقة هذا الفهرس؟! أو هذه الصفحات المتبقية منه؟!.. وأين بقيته؟! حينئذٍ عدل عن رأيه الأول، وأعاد جميع ما أخرجه من مخطوطات، وكتبٍ، إلى مكانها.. محتفظاً بتلك الصفحات الصفراء اللون.. مزمعاً اتّباع أسلوبٍ آخر في الوصول إلى حقيقتها!}
  #4  
قديم 24/12/2006, 07:07 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

(ص116-126)

{كان فراس يتحرّق لاستزادته من الكلام.. لكنه كتم لهفته.. وقال..
- وهل لديك مكتبة.. فيها مثل هذه المخطوطات؟
- فُتات مائدة.. عزيزي.. فُتات مائدة.. عدد لايذكر!
- .. لماذا.. ألم تحصل في سفراتك على صيدٍ وفيرٍ؟!
ضحك "يان" متعجباً..
- صيدٌ.. وفيرٌ؟! أنا لم أكن أعود من صيدي، كما تسميه، إلاّ وشباكي تطفح به، وتفيض!! لكن جميع ما أجمعه.. كان يذهب إلى الكاردينال.. ومن ثمّ، إلى المكتبة..
- أية مكتبة هذه؟!
- مكتبة الفاتيكان، بالطبع! وما غيرها؟ كان الكاردينال فيما مضى، قيّما على تلك المكتبة.. آهٍ لو تراها.. لو تتجوّل في دهاليزها..يا "دون ماكسيمليانو"!.. هل تصدق أن فيها ملايين الكتب والمخطوطات!! إن مكتبتكم.. مكتبة "الاسكوريال" الشهيرة.. لاتشكّل نقطة في بحرها!! إن باب المخطوطات الشرقية، وحده، يضم مئات ألوف من المجلّدات!!
- المخطوطات الشرقية؟! وهل هذا الباب يجمع كثيراً من اللغات؟
- .. جميع اللغات الشرقية.. لكن معظمها، باللغة العربية..

تمهّل هنيهة، ثم تابع..

- إن أمر هؤلاء العرب، لغريب حقاً!.. كأنهم اليوم، لا علاقة لهم البتّة بما كانوا عليه، في الماضي! ترى.. ماالسبب.. في ظنّك؟
لم يحر فراس جواباً.. ولم يكن محدثه ينتظر الجواب.. فأجداد "دون ماكسيميليانو".. أو جدّه الأول.. "فيرناندو الفاريزدي توليدو" أول دوق من سلالة "ألبا"، طرد آخر المسلمين من إسبانيا! مَحََقَ آخر معالم حضارتهم.. وساعد في امتداد حكم ملوك إسبانيا في أوربا، حتى وصل المانيا.. وهولندا!
كان "يان فرانتيشيك" قد شرد بعيداً.. يحاول الربط بين أفكار متقطعة في خياله.. قال بعد لأي..
- لاشك أنهم جُرّدوا من تاريخهم.. فأنا لم أكن إلاّ واحداً من هؤلاء الوسطاء.. ولقد كان للكاردينال، على مدى أربعين عاماً، مئات الوسطاء، منهم من سُيّروا إلى دمشق.. وآخرون، إلى القاهرة.. وغيرهم، إلى القيروان! ماذا أعدّد لك؟! لقد كان له المئات منهم.. يذهبون بالمال، وكتب التوصية، إلى السفارات.. ويعودون، من الصين، والهند، والباكستان اليوم، وجميع أنحاء الشرق.. بالصناديق، تلو الصناديق، وقد طفحت بهذه المخطوطات القيّمة!! معظمها باللغة العربية! لغة الحكم طوال عشرة قرون!!
تصاعد ما كان يكتمه فراس في نفسه من غيظ!! نهض مقترباً من محدّثه، وراح يقلّب معه الكتب القديمة.. متظاهراً بعدم الاكتراث لها.. إلى أن وصل إلى الصندوق الصغير.. فأخذ يقلّب صفحات بعض مخطوطاته العربية، كأنه لا يفهم ما فيها.. ثم قال..
- ما هذه.. أكتب عربية؟!
ردّ "يان" على الفور..
- بالضبط.. وإن لديّ في داري عدداً قيماً منها.. لشعراء، لا يعرفهم العرب!.. فهل يهمّك هذا الأمر؟.. لئن كان الأمر يهمّك.. فإن مكتبتي رهن إشارتك؟!
- وهل كنتم تجمعون كتب الشعر؟!
- كنّا نجمع كل شيء.. وكنّا في سباقٍ مع جميع مكتبات أوربا!.. "دون ماكسيميليانو" لا أظن أن لديك فكرة واضحة تماماً عمّا كان يدور في هذا الصدد!.. لئن كان "الفاتيكان"، والعديد من أديرة أوربا، قد فطنت في الماضي إلى أن أسرار العلوم، والفلسفة، ومفاتيحهما، موجودة لدى العرب.. وإن على الكنيسة الحصول على هذا السرّ، لتخنقه، في مكتباتها قبل أن يتسرّب عبر الترجمة والنسخ، ثم، عبر الطباعة، إلى يد الشعب.. خشية أن يفلت زمام قيادته الروحية، من أيديهم! أقول لك.. لئن كان الفاتيكان قد فطن إلى هذا الأمر، منذ عشرة قرون.. أي قبل أن تفتحوا غرناطة، بخمسة قرون! فلقد بدأت مكتبات العالم أجمع هذا السباق.. بدفع من حكوماتها.. منذ قرنين، على أقل تقدير! إن حملة نابليون، وحدها، إلى مصر، لم تترك في ذلك البلد المسكين إلا قصص ألف ليلة وليلة، وكتب الشعر، والتاريخ الهزيل!!
تعجب فراس لسعة اطّلاع محدثه.. وقال..
- وعمّ كنتم تبحثون إذن؟! ما دام هذا السباق قد بدأ منذ قرون؟!
- إن شباك الصياد تجمع كل ما يتحرّك.. ومن ثمّ يأتي التصنيف! وهنا بيت القصيد!
- وهل كان للكاردينال قصد معيّن؟! بعد مضيّ هذا الزمان الطويل على بدء سباق الصيد!؟
- بالطبع!! لقد كان دائم البحث عن المخطوطات الفلسفية! وسبب ذلك، ما وصله من هولندا من فهرسٍ قديمٍ، طار لبّه له! لن أنسى ما حييت، لهفته، واضطرابه، وهو يحدّثني عما يريد!! ولاشك أن الأمر كان بالغ الأهمية.. ولكن الكاردينال كان يخفي طبيعة عاطفية، خلف قناع الوقار الديني، وذكاءً مفرطاً، تحت قبعة الكاردينالية، الحمراء!!
- أي فهرس، تتكلم عنه؟! ماذا يعني وصول "فهرس"، بالنسبة إليه؟!
أدار "يان فرانتيشيك" ناظريه نحو فراس، يحدق في وجهه، رغم ضعف نظره الشديد.. يحاول استطلاع ما يمكن أن يرتسم على وجهه الإسباني النبيل، من انطباع! كان على وشك أن يقرن اسم محدثه بأسماء أحد أجداده! لكن تذّكر حنقه، حين ذكر قضية الألقاب، أمام المندوب الفرنسي.. فآثر متابعة تجاهله للقبه.. قال وهو يبتسم..
- إنه فهرس من مكتبة يقال إنها كانت ﻠ "الدوق فيرناندوالفاريزدي توليدو"... أعظم قوّاد إسبانيا العسكريين.. ومؤسس دوقية سلالة "ألبا" العظيمة!! إنك تفهم ما أقول!! يقال.. وأنا، إنما أقول.."يقال".. جمّعها عنوة، من حيث توارت في بيوت الأندلس العربية.. وسافر بها إلى هولندا!! خطفها.. أو سباها.. إلى هولندا!!
!}[/COLOR]
  #5  
قديم 24/12/2006, 07:11 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

[COLOR="RoyalBlue"]سأل فراس في تجاهلٍ تام لأهمية ما كان يسمع..
- ولماذا لم يحرقها، كغيرها من المخطوطات العربية؟!
- "دون ماكسيميليانو".. أرجوك!!.. إن "دون فرديناندو" لم يكن إنساناً كغيره من الناس!.. لقد أحرق ما أحرق، من مخطوطات، مدفوعاً بهدفٍ مبيت!! أراد من جهة، إزالة تاريخ العرب، والمسلمين، من تراب الأندلس! لكنه احتفظ بعدد غير قليل من المخطوطات التي تشمل خلاصة الفلسفة، والفلك، والعلوم، والموسيقا.. للاستفادة منها وسافر بها إلى هولندا!!
- .. ولماذا هولندا بالذات؟!
- "دون ماكسيميليانو".. إن جميع ما أرويه لك الآن قد أتاني مباشرة من الكاردينال "بانيفيلي" نفسه، نقلا عن مصادر، في كلٍّ من حاضرة روما، ومدينة أمستردام!! وإنك.. إنك..لو لم تكن "دون ماكسيميليانو" بالذات.. لما تفوّهت أمامك بحرف واحد مما تسمع!!
هزّ فراس رأسه، وتمتم..
- حسنٌ.. وماذا بعد؟
- لقد كان هدف مَنْ خطّط لهذا الموضوع.. هو ترجمة هذه المخطوطات والتصرف بها.. بما يتماشى مع أهداف الحقّ، والكنيسة!!
امتقع وجه فراس !! حملق في محدّثه، ثم أدار وجهه عنه، محاولاً جهده ألاّ يبدي من انفعاله ما يصل إلى محدثه العجوز.. وسأله..
- التصرف بها؟! ماذا يعني هذا .. بالضبط؟
- .. في كل بساطة.. نشر، ما يراد نشره، باللغة اللاتينية، بعد حذف ما ينافي الدين منه، وما يتطلب الواجب الديني حذفه.. ثم، زيادة ما يُراد، هنا.. أو حذفه، هناك!! لكن لماذا تتعجّب؟ إن المكتبة الفلسفية المسيحية كانت في أشدّ الحاجة إلى مثل هذه المخطوطات.. ليس لخدمة الدين الإسلامي الذي كتبت من وحيه، بالطبع.. بل لخدمتنا، نحن!! فما الغريب في ذلك؟! ثم، أليس الله، واحداً؟! أوهكذا يجب أن يكون.. لدى الجميع؟! إن الهدف كان.."استعارة" النصوص والمخطوطات.. تقديمها للفكر الأوربي، في لغة أوربية، وقالب أوربيّ، ليس غير!! ولو أنها نُشرت تحت أسماء مؤلفيها العرب، لغاب القصد من ورائها، ولأصبحت قراءتها ترفع من شأن الدين، والعقل الإسلامي.. بينما المقصود، كان، خدمة العقل الأوربي، وعقيدته.. اللّذين ظلاّ عاطلين عن العمل، طوال ألف عام!!

توقف "يان" عن الكلام برهة، يستجمع أفكاره.. ثم تابع..

- تسألني لماذا "هولندا".. نعم.. لكنك تعلم ولاشك أن "دون فيرديناند والفاريز".. "كبيرإسبانبا".. حكم هولندا مدة لابأس بها.. باسم التاج الإسباني بالطبع..
كان العجوز يحاول أن يتأمل وجه "دون ماكسيميليلنو".. ينظر إليه من تحت إطار نظارتيه، يحاول رصد الأثر الذي يتركه كلامه على الحفيد الأصغر! ﻠ "دون فيرديناندوألفاريزدي ألبا" الذي يتحدث عن أخباره!!
ثم ضحك من خاطر مرّ في ذهنه.. فأردف على الفور..
- .. ولا تستغرب بُعد هولندا، عن الأندلس!.. إذ.. ماذا تفعل الهرة، حين تمسك بفريستها؟.. ألا تراها تهرب بها بعيداً، بعيداً إلى مكان آخر؟.. بعيداً عن الأنظار؟.. في مأمن من المراقبة؟
حرّك فراس رأسه.. موافقاً.. متعجباً.. لايدري ماذا يقول.. فتنهد "يان فرانتيشيك".. وقال، مبتسماً في مكرٍ مبطّن..
- يا لغرابة الأقدار.. ها أنا ذا أخبر الدون "ماكسيميليانو" عن سرٍ كتمه الدون "فيرناندوالفاريزدي توليدو".. منذ خمسة قرون!
تبسم فراس، يجاري تعجب محدثه، وسأل..
- وهل يعرفه الكثيرون غيرنا.. يا "سينيور"فرانتيشيك"؟
سرّ "يان" أن يسمع اسمه على شفتي حفيد "دون فيرديناندو" فقال..
-لا أحد عدا الكاردينال "بانيفيلي".. ونحن! والسبب، في ذلك، يعود إلى أخبارهذه الواقعة، حين أتت من أمستردام، قبل الحرب.. وصلت إلى الكاردينال "بانيفلي" مباشرة.. وكان، هو القيّم على المكتبة والمسؤول عن جميع الشؤون الثقافية في الفاتيكان، آنذاك... أمّا عن المصدر.. أي "أمستردام".. فإن الكاردينال الذي كان فيها
آنذاك، كان قد توفّي.. وتعاقب على كرسيه كاردينالان..
نهض فراس من حيث كان جلس على مقعد خشبي كبير، قبالة "يان فرانتيشيك".. تقدم ثانية نحو صندوق الكتب والمخطوطات العربية.. وسأل، مستفسراً..
- إن هذه قصة.. أو رواية طريفة.. بل مثيرة، ولاشك! لكن أين يوجد هذا الفهرس الذي تتحدث عنه؟.. وماذا حلّ به؟!
قطّب "يان" جبينيه، وهو يتلمّس قعر الصندوق الصغير بأصابعه، لا يتوقع العثور فيه على شيء.. وقال متعجباً..
- .. لك كامل الحق ألا تصدق رواياتي!.. فأنا أتكلم عن جريمة، شاهدتها، وما من جثة هنالك، تدعم ما أقول!!.. "دون ماكسيميليانو".. ما رأيك إذا قلت لك إني كنت أملك نسخة مخطوطة وإنها سرقت مني!!
عاد بنظره إلى قعر الصندوق وتمتم لنفسه..
- .. أظن أنه كان قد بقي منها بضعة وريقات.. لا أجدها الآن.. لابدّ أنها تبعثرت.. أو بليت.. من يدري..
ثم عاد بناظريه، يرفعهما في اتجاه وجه فراس، ويكرر..
- .. إني لم أفهم هذه الحادثة قط.. لم أجد لها أي تفسير!.. لماذا اختفى الفهرس من صندوقي؟!.. وبالمناسبة، فلقد كان في هذا الصندوق، العديد من المخطوطات العربية الثمينة.. زمن اختفاء الفهرس..
- إنك تناقض نفسك.. سنيور"فرانتيشتك"!
تعجب هذا، وسأل..
- أنا.. كيف؟..
- تقول إنه ليس غيرنا، و"الكاردينال" على علم بقضية الفهرس، اليوم.. فكيف يكون ذلك صحيحاً إذا كان الفهرس قد سرق منك؟!.. إن الذي سرقه لابدّ أن يكون على علم بهذه القضية!
تبسّم "يان" في خبث.. وأجاب..
- إلا إذا كان الكاردينال، نفسه، هو الذي حرّض أحدهم على سرقته مني!!.. لمَحقِه من الوجود!!
- وكيف يصل إلى ذلك.. أليس هنالك سجلّ مفتوح بمحتويات المكتبة؟!.. ألا تدرج جميع محتوياتها في فهارس مكشوفة؟!
قهقه "يان فرانتيشيك" لما سمع، وقال..
- لكم أنت متفائل!.. شريف النوايا، يا"دون ماكسيميليانو"!.. وهل تظن أن فهارس "الاسكوريال" تكشف للناس جميع ما تحتويه مكتبتها؟!.. إن من الصعب عليك أن تتحرى الأمر بنفسك، هنا، في "الفاتيكان".. فلا شك عندي أنك قادر عليه في إسبانيا!.. وأن لك من العلاقات من يفتح لك الأبواب إلى ما يُخفى عن الناس، في المكتبات، من آثار!.. آثار لها فهارس لا يطّلع عليها إلاّ رؤساء الأديرة!
تنهد طويلاً، وحرك يديه كمن يتلمس طريقه في الظلام، وقال..
- ..لقد عملت إلى جانب الكاردينال، في تلك المكتبة، ردحاً من الزمن.. كان يستعين بي لتصنيف، وتسجيل، ما كنت أعود به من كتب.. تصوّر.. إنه لم يكن يثق حتى بالعاملين بها، من الكهنة!!.. ولعله لم يكن يثق بي، أصلاً.. إلا لمعرفته بأنني.. سواء شاء، أم أبى، فأنا لا يمكن أن أجهل وجود المخطوطات التي حصلت عليها بنفسي!!.. آه.. لو كنت ترى أروقة تلك المكتبة، وسراديبها الرطبة، الحالكة الظلمة.. والمخفية، في بعض الأحيان!!.. ليتك تراها يوماً!!

تنبه من شروده، وتابع قائلاً..

- كنت أحدثك عن الفهارس.. فيا عزيزي "دون ماكسيميليانو"، إعلم أن الفهارس بالنسبة لتلك المكتبة، مثل دفاتر الحسابات، بالنسبة للتاجر!.. فكما أن للتاجر منها عدداً، لا يُظهر منه إلاّ ما يناسب المدقّق.. كذلك، لمكتبة الفاتيكان!!
- والفهرس الحقيقي؟!.. هل هو في حوزة القيّم وحده؟!
تبسّم "يان فرانتيشتيك" في سخرية، وتعجب..
-.. لا شك أن هنالك فهرساً يظن كل قيّم، بدوره، أنه الفهرس الحقيقي!!.. لكن الحقيقة هي أن ليس للمكتبة من فهرس حقيقي جامع!.. فلقد تعاقبت على الفاتيكان عصور كادت أن تصل النوائب والكوارث، أثناء بعضها، إلى عتبة بابه!!.. وفي كل مرة، كانت السراديب تفتح، عن سراديب أخرى، تحتها، وخلفها.. ويجري إخفاء تحفه، ومخطوطاته!.. وفي كل مرة، كانت الفهارس تختفي، ثم تعود!.. لاأحد يعرف ما ينقص منها، أو ما يضاف إليها!!
- ولماذا لا تُجرد محتوياته؟ ويصار إلى برمجتها، على حاسبات "الكترونية"، في ظنّك؟.. أو لعلهم قاموا بذلك الآن..؟
- إنها خير طريقة لقتل الهدف!.. إن كان الهدف من هذا الجرد، هو حماية المخطوطات.. فإن خير طريق للقضاء عليها.. هو أن يكُشف عن أسمائها!!.. خصوصاً على لوائح الكترونية، في متناول الجميع!! لا يا عزيزي لا!.. إن "الفاتيكان" ليس على هذه العفوية والسذاجة في التعامل مع الجميع!
تعجب فراس لقوله.. وسأل..
- .. وماذا تعني بكلمة "الجميع".. وهل هنالك من "غرباء".. داخل أسوار الفاتيكان؟!.. وهل هنالك غير الكهنة.. بل، نخبة هؤلاء، ممن يعملون فيه؟!
رفع "يان فرانتيشيك" رأسه، نحو وجه محدثه، ونظر إليه يستغرب جهل، وعزلة الاستقراطية، التي سمحت للغرباء بغزو عقر دار مقرّها الروحي.. والعبث بأقدس مقدّساتها!!
قال، في أناة..

- وهل هناك من "يزرع" هؤلاء الكهنة.. ويعرف كيف تُختار البذور؟!.. أليس الكهنة في الأصل، أناساً عاديين؟.. من عامة الشعب؟.. يلتحقون بالكنيسة، والشاطر منهم، من يعرف اسم جدّه؟!.. لا.. لا شك أن الكنيسة تدقق، حسب قدرتها في أصل، ونشأة، ودوافع، من يلتحقون بها.. لكن.. وهنا يقع السؤال الأهم.. كيف لها أن تعرف ما إذا كان المنتسب إليها هو من أصل يهودي.. يتعمد إخفاء عقيدته؟!.. وهل للدين، لون، يظهر على الوجوه؟!.. إنه أسلوب معروف.. إنها عادة أجهزة التجسس القديمة.. تدفع بعناصر لها، تنزلق في صفوف أعدائها.. والعكس، بالعكس!.. وقد تصل هذه العناصر المتخفية، إلى أعلى المناصب، في الجهاز المعادي!!
سأل فراس، يتعمد عدم خبرته في هذا المجال..
- ولماذا اليهود بالذات؟
- لأن الكنيسة الحقيقية، هي عدوّهم الأكبر!.. والأناجيل، لَعَنَتْهم، وحكمت عليهم بالتشرّد إلى الأبد، جزاء ما فعلوا بالسيد المسيح!!
صمت فراس برهة.. ثم سأل.. وهو يعرف الجواب..
- ألم يقرر المجمع الكنائسي، مؤخراً.. إزالة لعنة التشرد، هذه، عنهم؟!
- .. ومن تظنهم كانوا وراء هذا القرار.. من رؤساء الأساقفة؟!.. قرار ينقض مباشرة، نصوصاً صريحة، وردت في الأناجيل الأربعة!!
تدافعت في رأس فراس خواطر لا حصر لها.. راح يحارب في نفسه ميل الإنسان الغريزي للسعي وراء أقرب الحلول، وأسهل الأجوبة!.. يقاوم فكرة حصر جميع ما مرّ به من أحداث متفرّقة، في بوتقة واحدة، سعياً وراء إجابة سهلة، صريحة!
أثار حديث "يان فرانتيشتيك" في نفسه، هواجس دقيقة.. تعجب من نفسه، كيف كان على وشك التخلص منه.. وإذا به، يفتح أمامه عوالم أقل ما يقال فيها.. إنها عادت به إلى أيام طفولته الأولى!.. أيام أحاديث جدّته.. وزرعها في نفسه حبّ البحث والتنقيب، لا عن هوى، أو تسلية.. أو حتى، عن حبٍ للبحث العلميّ، المجرد.. بل بدافعٍ من حسٍّ غريب.. هو دينيّ، ولا علاقة له بالدين!.. قوميّ، ولا علاقة له بقومه!
لطالما قاوم في نفسه ميلاً طبيعياً إلى قصص البطولة، والتضحية!.. كان يقرأ في طفولته سِيَرالأبطال.. تغص حنجرته، بما يعتمل في صدره، وهو يعيش، مع أبطالها، قصصVan Howe وSir Galahad وKing Richard لا يميّز الخير، من الشرّ فيها!.. إلى أن لفتت جدّته تارخ خولة، وخالد وصلاح الدين، ثم(قيس، وعنترة، وابن زيدون).. فتعلّم كيف يميّز الصالح من الطالح، والقبيح، من الجميل، والعدو، من الصديق!
هاهو ذا يقف أمام عالم، لم يخطر له على بال!.. عالم فيه، بالنسبة إلى الإنسانية جمعاء، من التصوّر والخيال أكثر مما فيه من واقعٍ ملموس!!.. ورغم ذلك، فهاهو أمام فنان كهل.. يكاد يتعثّر إذا ما سار وحيداً في الظلام.. يحدثه عنه، حديث العالم، الدّاري!.. لا قصد مباشر له من وراء حديثه، سوى إحياء رفات قلعته الدارسة

آخر تحرير بواسطة king1 : 24/12/2006 الساعة 07:13 PM السبب: إضافة لون لفقرة محددة
  #6  
قديم 24/12/2006, 07:16 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

(ص137-139)

{أعجب فراس منذ البدء، بمرونة، ودقة أصابع "بالوما" المتمرسة في العزف والأداء.. لعله كان يتوقع ما تعّود سماعه من عزف "الصالونات"، المتوسّط الجودة!.. فما إن تخطّى ذهنه ذلك الانطباع الأول.. حتى انزلق إلى الموسيقى نفسها، فبدت، كأنها تنبع من لوحات، وجدران "الفيلا لودوفيزي"، نفسها ترجّع صدى، فيمور فوق رؤوس الحاضرين في وئام، كأن تلك الموسيقى كُتبت لعصرهم، في زمن مضى..
ما كان في حاجة لسماع جوقاتٍ بكاملها، تعزف ألحان "فيفالدي" أو "باخ" لينفذ من خلال أصوات العديد من آلاتها المجتمعة، إلى سرّ روح الغلرب، متمثلة في ما تخلقه من الجوقات من بحارٍ زاخرةٍ بجميع أنواع الحركة والحياة.. يسيطر تمازجها على إحساس السامع، تبعث في عاطفته أمواجاً متتالية.. تتمكن من وعيه الجدلي.. فلا يستطيع، إذا تكلّم، إلا اللّهج بالثناء.. ولا، إذا صمت، إلا الغرق في لجج العاطفة..
لقد درس الموسيقى، وكان يعزفها ويكتبها.. يعرف مدى ما يستطيعه العلم أن يزيد على اللحن البسيط من انواع الزخرف، والمرافقة.. حتى ليضيع اللحن، ويصبح أسلوب العرض والتنميق هو الهاجس الأول، والأخير..
تذكر قولاً ﻠ "سغوفيا" عن وحشية صوت البيانو.. وصراخ، وزعيق الكمان.. وأن ليس سوى القيثار،في نظره، من آلة لا تعرف المبالغة.. وعاد في ذهنه إلى وطن القيثار.. إلى الأندلس، وتحسّر على زمنٍ كاد القيثار فيه أن ينطق بالعربية.. لغة آبائه، وأجداده..
كانت "بالوما" قد أنهت عزف مقطوعتها الثانية.. ولعلها أوشكت أن تستريح.. حين سألها فراس، في لهجةٍ بدت للحاضرين كأن فيها شيئاً من التحدّي..
- وهل تجيدين "الفلامينكو".. كذلك أيتها الآنسة..
أدارت "بالوما" وجهها نحوه، وهي لا تزال على شرودها الأول.. لم يفارقها، منذ أن أمسكت بقيثارها.. لم ترد على سؤاله.. لكنها أطرقت تنظر إلى أوتار قيثارها، ثم ضربت بيدها اليمنى فجأة على خشبه، ثلاث طَرقاتٍ.. ماتعاتٍ.. مصممة.. أطلقت بعدها لجميع أصابع يدها العنان.. في سيل من العزف الصاخب، ذهل الحاضرون لعنف مقدّمته! ولما أدخله على رتابة جوّهم الأنيق، من حرارة مفاجئة، ودفق عاطفةٍ لا تعرف التريّث أو الكلل!

اختلط الإعجاب بالتأثر على وجوه الحاضرين! لكن أكثر الذين تبدّت عاطفتهم على ملامحهم كانت الكونتيسة "دل بيلار".. امتزج تأثرها بمسحة من القلق، بانت في نظراتٍ راحت تنقلها على وجوه غيرها من المدعوّين.. تحاول استطلاع حقيقة انطباعهم.. تتيهّبه.. تتساءل عن كيفيّة تقبّل ذاك الجمع، لموسيقى الأندلس، البعيدة كل البعد عن الأناقة المدروسة للمكان ومن فيه من الحاضرين من ذوي الألقاب الكلاسيكية!.. تردّدت في فهم دوافع "دون ماكسيميليانو" في طلب ذاك النوع من الموسيقى، من أختها.. هل كان يشير إليها، هي، من طرفٍ خفيّ.. وإلى أصلها الأندلسي المزعوم!.. لو أن عينيه ما كانتا تبرقان إعجاباً بما سمع، لأوشكت تظنّ أنه يحاول أن يلصق بها تهمةً باطلةً.. ثم التشهير بها.. على الطريقة الساديّة المترفّعة لأهل الشمال!}
  #7  
قديم 24/12/2006, 07:21 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

ص143-145)

قال فراس، هازئاً..
- إن "فرساي"، قصة طويلة!! إنها التطبيق العمليّ، للمدينة الفاضلة.. على يد الأرستقراطية الفرنسية!.. جميع النبلاء.. الطبقة الحاكمة، بأسرها.. تعيش، في مئات الغرف، من قصرٍ هائلٍ، في ظلّ حكم أكبر ملوكها.. "ملك فرنسا"، لويس الرابع عشر!
ردّ "شارل غوستاف".. في شبه دفاعٍ.. كأنه يستبق الهجوم!
- لعله حلّ "طوباوي".. لكن.. ليس هنالك من ينكر جماله!.. جمال "فرساي".. وحدائقها.. رغم مساوئ تلك الطبقة.. وعلاّتها..
تابع فراس في سخريةٍ، مبطّنة، لاذعة..
- جمال "فرساي".. الذي لا مراحيض فيه؟! ولا دورات مياه؟! أُذكّرك بقول "ميشلسة" الكبير "ألف عام لأوربا.. دون حمّام"!!
بهتت "بالوما".. وسألت..
- دون حمّام؟.. ماذا تعني بذلك؟!.. ألف عام؟!
- إن الكنيسة تكره الحمّام.. ولقد ظلّت تكرهه.. حتى القرن التاسع عشر! لقد كرهته.. هكذا.. وبكل بساطة.. وأوصت ضدّه! ذكّرها بحمّامات روما العريقة.. ثم بحمّامات العرب.. والمسلمين!.. وليس الذنب ذنب الكنيسة وحدها .. فأوربا، بلاد باردة.. كرهت النظافة، على مرّ العصور! تكرها حتى اليوم.. تصّوري.. إن هنالك من كان يجاهر بأن الدهن، والقذارة، يشكّلان طبقة يجب تركها على بشرة الإنسان.. لحمايته من البرد، أو العوامل الطبيعية!! ولقد قيل هذا القول.. في زمن "فولتير".. و"ديكارت".. وكبار مفكّري أوربا!! يا لقذارتهم!

بادر "شارل غوستاف" مفسراً..
- لا.. لا.. إن للأمر علاقة بالنظرة الدينيّة للكون.. فالكنيسة تكره الجسد.. الذي هو، بالنسبة إليها، سجن الروح.. فكيف تريدين لها أن تكترث لنظافة هذا السجن؟!
أجابت "بالوما" متعجبة، ساخرة..
- أفلا يقوم السجناء بتنظيف سجونهم؟!
- ثم.. هنالك مسألة الجنس.. فالكنيسة تكره الجنس كذلك.. فترى في التعري، والاعتناء بالجسد.. نداء للبواعث الجنسية!.. وفخاً، يسقط الإنسان فيه.. في المعصية الكبرى!!
ضحكت الماركيزا "كولونا" التي كانت تفخر بجسدها، وتغتسل كل يوم.. وقالت..
- .. لقد كانت "ماري أنطوانيت" تأتي بالمغطس الصغير.. إلى غرفتها.. وتنزل فيه، دون خلع ثيابها الداخلية! تصوروا!
علّقت "الكونتيسة دل بيلار".. موافقة..
- ثلاث مرات.. أو أربعاً في السنة! على أكثر تقدير!!
كان "باتريس" على وشك قول شيءٍ ما.. ربّما، دفاعاً عن ملوك أسلافه.. فأشارت "الماركيزا" إليه بيدها.. قائلة..
- لا.. يا عزيزي.. فأنا من أصلٍ فرنسي.. وأعرف خفايا حياة القصور!.. فإن كان في إمكاننا السكوت عن معظم مساوئها.. أو المرور عليها، لتسويغها، بشرح أسبابها التاريخية.. فإن هنالك أموراً حضارية لا يمكن السكوت عليها، أو تسويغها!.. لا من بعيدٍ.. ولا من قريب!
نظر "باتريس" إليها قلقاً.. مستفسراً.. فأجابت، ضاحكة..
- حقاً إني لا أفهم ذلك! كيف كان الملك يدير مؤخرته العارية.. لأحد النبلاء.. بعد انتهائه من التغوّط.. كي يمسحها النبيل بقطعة من القطن!! ثم يهديه الملك تلك القطعة، القذرة.. كذكرى عزيزة، لما نابه من شرفٍ رفيع!!
علا صوت "بالوما" بصرخة مكتومة..
- لابدّ أنكم تمزحون!! وهل يعقل ذلك؟! إنني لم أقرأ هذا في أيّ من كتب التاريخ التي درسناها!! "ملك الشمس"، موحّد فرنسا!!
هزء فراس منها..
- وهل التاريخ يدرس في المدارس؟!
عادت إلى تساؤلها، في عصبية ظاهرة.. تكرر ما سمعته، كأنما لا تحسن استيعابه..
- وهل كان ملك فرنسا، فعلاً، يقوم بذلك؟! أمام النبلاء؟! كل صباح؟! ويهدي القطنة لمن يقوم بمسح مؤخرته؟! يالها من حضارة!! خيرٌ لعلماء "الانثروبولوجيا" دراسة مثل هذه الظواهر.. البدائية.. في مجتمعاتنا نحن.. بدل من دراستها في جزر "هاييتي"، أو غابات " الأمازون"!!
علقت الكونتيسة "دل بيلار" قائلة..
- إن ما يحيرني هو.. هل كان النبلاء يعتقدون، فعلاً، أن تلك القطنة، بما عليها من غائط ملكيّ، هديّة ملكية رفيعة.. ذكرى، تجب المحافظة عليها؟! هل كانوا يقومون بذلك عن قناعة أم، مجاراة لنزوة الملك؟!
هزّ فراس رأسه في شيء من النزق، وقال..- سيدتي.. ليس الأمر نزوة عابرة، ولم يقتصر على ملوك فرنسا وحدها.. إن أوربا ظلّت تتناسى عيوب ماضيها .. حتى نسيتها! وهل تظنين ان ملكاً، يدير مؤخرته أمام بلاطه، إذا لم يكن ذلك البلاط يرحّب ويبتهج بما يرى؟! أم هل تظنين أن مثل هذه الفعلة "الحضارية"، يمكن أن تكون من ابتكار جيلٍ واحدٍ!! ولا يبدّل في الأمر شيئاً، أن يفسّر أحدهم ذلك‘ فيرّجعه إلى أحد الطقوس التي لها علاقة بالتوتم "الفرويدي"!}
  #8  
قديم 24/12/2006, 07:29 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
Smile

(ص150)

{- لقد قرأت في إحدى روايات الدوقا "دي لامبادوزا"، وصفاً مثيراً لسهرة أرستقراطية، في بداية هذا القرن.. كان النبلاء يبولون ويتغوّطون، أثناءها، في إحدى حجرات القصر.. في أوعية، وآنية خزفية، أو معدنية.. بلغ عددها المئات!!.. هل ذلك صحيح؟قهقه "الدوقا داوستي" على مهل.. وأجاب..
- صغيرتي.. كانت تلك الحال، في بيوت الجميع، وخلال كل الحفلات.. حتى الحرب العالمية الأولى! لكن ما أهمل "لامبادوزا" توصيله للقارئ.. هو تلك الرائحة الزكية.. التي كانت تتدفق على الحاضرين.. من تلك الغرف المليئة بمئات آنية البول.. والغائط!! وقد يطفح بعضها.. أو تندلق محتوياته على الأرض! إن تلك الرائحة النتنة المروعة .. لم تكن تملأ على الأوربيين بيوتهم، وشوارعهم فحسب، بل إنها كانت تخيم على المدن، تطفو فوقها!.. حتى إن رائحة الغائط.. كانت تستقبل المسافرين وهم على بعد أميال من مدنٍ شهيرةٍ مثل باريز، ولندن، وغيرها!! فما قولك؟!}

(ص160-162)

{كانت عادة إيطالية قديمة، تقضي أن تقصّ الخمائل في الحدائق، في شكل أقواسٍ، وقببٍ، ومغائر.. كأنها أعشاش لمخلوقات كبيرة..
سمع أصواتاً خفيفة، أشبه بالهمس، تنبعث من وسط الجدار النباتي العريض، فتعجب، إذ لم ير خلفه، مباشرة، من فراغ، يتسع لغير سور الحديقة الحجري!..
مشى إزاءه برهة في الظلام، يلامس بيده المفتوحة سطحه المورق.. يتعجب لما سمع، إلى أن وجد نفسه أمام فتحة بدت له، كأنها مدخلٌ لنفق كان قد شُذّب وسط ذلك الحائط النباتي..
ولج داخل عتمة الخميلة، يعبر النفق، يعلل نفسه بأنه إنما يحتمي من زخّة مطرٍ خفيفةٍ كانت قد بدت بالهطول!.. لكنه، تسلل على رؤوس أصابعه، في هدوءٍ وحذرٍ، وقد شحذ أذنيه، يتسقّط مصدر ما سمعه من همس.. يسعى نحوه.. يودّ مفاجأة غيره، لا أن يباغت بهم!!
توقف على بعد خطواتٍ من حركة بانت قبالته.. تسمّر في مكانه، برهة طويلة، سمع بعدها همساً مكتوماً، لم يفهم دلالته!!
سمع صوت احتكاك عود ثقابٍ، سطع بعده نوره البرتقالي، بغتة، لبرهة جزيئاتٍ من الثانية.. ثم عاد المكان، إلى ما كان عليه، من ظلامٍ دامسٍ!
طُبِع في ذهنه خيالاتٍ مما رأى.. ماذا رأى؟!.. شخصين، أم ثلاثة؟.. ثلاثة.. بالتأكيد!.. ثلاثةٌ، واقفون.. هل كان غيرهم.. على الأرض؟!.. لم يعد يذكر!.. والواقفون؟.. من هم؟!.. جميعهم عراة.. أو أنصاف عراة!! الثلاثة متلاصقون.. لم يتبيّن لون شعر الفتاة.. كانت وسط الشابين.. مستسلمة لهما.. لا تبدي حراكاً!
أحس بالدم يعلو إلى وجهه، وسمع ضربات قلبه في صدغيه!!.. من تكون الفتاة؟!.. لا.. لايمكن أن تكون هي.. لا.. هذا لا يمكن!!..
من تكون إذن؟!.. إنه لم ير شعراً أشقر.. لعلها إحدى المدعوات.. أو فتاة من شغّالات القصر!.. والشابان؟!.. هل كانا من النُدُل؟!.. لا شك في ذلك!
تذكر وهج نور عود الكبريت على أجسادهم الشابة.. المتوترة!!.. ماذا يفعل؟!.. ماذا يفعل؟!
أحس فجأة بلمسٍ خفيفٍ على جسده!!.. يدٌ تتجول على ساقيه.. كأنها آتية من جسمٍ متسلقٍ، أو متربعٍ على الأرض!!.. ثم أحس باليد الأخرى تفتح أزرار بنطاله!!
لم يفاجئه ما رأى منذ لحظات، قدر ما باغته، أنه قد وجد نفسه، بغتة، وإثر ملامسة ذلك الشخص المجهول، جزءاً مما يحدث، دون أن يبادر، للمشاركة في ذلك!!
هل شاء أن يتحرك؟!.. هل شاء أن يتملّص؟.. ولم يقو على قطع ما انتابه من إحساسٍ بالخدر، لدى ملامسة الشفاه المجهولة ما تعرّى من جسده؟!.. هل شاء أن يتقدم، ليشارك، فيما بقي في ذهنه، من صورة الأشخاص الثلاثة الذين ما زالوا على خطوات منه؟!
فطن إلى أنه كان مع رابعهم!!.. حرك يديه، أمام ساقيه، يبغي ملامسة الرأس الذي انهمك في إثارة جسده!.. لامس بشرة ناعمة.. ثم شعراً طويلاً أملس.. تتبع امتداده.. وطوله، وإذا به ينساب على ظهرٍ، أملس، عارٍ!!
لم يشأ أن يتعرف، أكثر من ذلك!.. لم يشأ أن يزيد من مقدار تأكده، ولا أن يقلل منه!!
غمره إحساسُ عجيبٌ بأنه في حلمٍ، وأنه تحت تأثير مخدر فعّال!!.. كان مع من يشتهيها، دون أن يكون!.. يلامس رأسها.. جبينها، وخديها، وعنقها.. في الواقع، كأنه يفعل ذلك في الخفاء!.. يقوم بما يشتهي.. كيفما شاء، دون أن يكون لما يقوم به من رديفٍ واقعي.. أو لذلك الرأس، من وجودٍ إنسانيّ حقيقي!!.. يستقلّ بالمتعة، مع إنسانة، معروفةٍ، مجهولة.. وفي الوقت ذاته، يرى، في ذهنه، ما يقوم به الأشخاص الثلاثة، ويحس بوجودهم، كأنه يشعّ بحرارة أجسادٍ ذات وجوه، لا معالم لها!!
ما أمتع لذة الشفاه المجهولة!!.. وما أقوى سحر يدٍ خفية، تلامس جسده في الظلام!!
ما إن بلغ نشوته، حتى تبدّل جميع ما حوله.. وخبا سحره,, في نفس الصمت، والإبهام، الذين كان قد ابتدأ بهما تلك الرحلة إلى الظلام والمجهول!
عاد أدراجه، عبر النفق المظلم، وخرج منه، ليتلقف وابلاً من زخّات المطر، احتمى منها ، تحت شجرةٍ كثيفةٍ.. تمهّل برهةً، يستجمع كامل حضور ذهنه، وقواه، ثم أسرع راكضاً نحو القصر الذي لم يكن ليبدو منه، في الظلام، سوى فتحات نوافذه.. ينبعث منها نورٌ برتقالي خافت..}


(ص166)

{عاد إلى خاطره ما جرى له، تلك الليلة، في حديقة "الفيللا لودوفيزي".. وتلاشى من ذهنه كل معنى جنسيّ لتلك التجربة!.. ماذا؟.. ألم يكن يشارك أشخاصاً مجهولين، في طقوسٍ غريبةٍ لا يعرف اسماً لها؟!.. يعود تاريخها إلى آلاف السنين؟!.. ألم تكن، تلك الامتداد المباشر للطقوس الوثنية التي عُرفت بها أوربا.. والتي انقلبت عليها الكنيسة فاشتطت في محاربتها، حتى كادت تحرّم الجنس نفسه على الإنسان الأوربي؟!..
لقد كان إنساناً، في تلك اللحظة، لحظة مارس تلك الطقوس.. ذلك أمر لا شكّ فيه.. لكنه كان إنساناً غربيّاً، يتجاوب مع ضبابها.. يجري لقاحاً غامضاً في رهبة الليل.. فوق أرضٍ تسطع بلغز نور قمرها الفضي المهيب!
ما الذي دفع الإنسان الغربيّ للثورة على واقعه الغريزي، فانقلب على الجنس، في محاولة يائسة للتخلص من جذوره الطبيعية؟!.. وماذا عن الشرق؟.. أليس الإنسان فيه جزء من أرضه كذلك؟!.. بلى.. لكنه جزءٌ من أرضٍ سما عنها.. أرضٌ، لا ديمومة فوقها للنباتات، بطحالبها.. والأشباح، بأشكالها البشرية الإلهية..}
  #9  
قديم 24/12/2006, 07:34 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

(ص190-191)

{غابت أصوات السيارات، وخرج من القوس الثانية إلى ممر جديد، أقل عتمة من الممر الأول، يحيط بفناء الملعب الشاسع، البيضوي الشكل.. وينفتح عليه، عبر أقواس جديدة، ضيقة، تطل فتحاتها على المدرّج، وينفتح عليه، عبر أقواس جديدة، ضيقة، تطل فتحاتها على المدرج، وأرض الفناء الذي سُرقت أحجاره، ورخامه، فبان ما تحته من جميع دروب الأقبية المتعرجة، كانت تقاد الحيوانات الكاسرة عبرها، لتباغت الجمهور، فتظهر فجأة أمامه، وتتقاتل تحت أنظار سبعين ألفاً من المتفرجين!
لم يكن فراس قد دخل "الكولوسيو" من قبل، في تلك الساعة المتأخرة.. لعله أُخذ، لبرهة وجيزةٍ، برهبة المكان، فراح يتأمل ما حوله، كأنما نسي ما جاء من أجله!
تنبه إلى ظلالٍ تسبح على أرض الممر.. سرعان ما فطن إلى أنها ظلال أناس متخفّين.. يتنقلون في حذرٍ وصمت، بين خبايا المكان.. يتوقفون، من حين إلى آخر، فيغيبون في ظلمة عشرات الأعمدة، والصخور الكبيرة، وزوايا، وخبايا ذلك التيه الكبير!
كيف يجد "بالوما" بين هؤلاء؟!.. ولماذا تيقّن أنها لا بد واحدة من تلك الأشباح المتنقلة في الظلام؟!
كان قلبه يطرق بشدّة.. أحس أن أطرافه قد انتابها الصقيع!
تذكّر حديقة "الفيللا لوفيزي".. ووحشة النفق الذي دخله، في جدارها النباتي!.. فأحسّ أنه، بالمقارنة مع ذلك المكان، كان، في تلك الحديقة، كأنه في أمان بيته!.. وبدا له ذلك النفق النباتي، المعتم، مريحاً، هادئاً، وكأنه تحت غطاء فراشه الدافئ!
كيف يتعرّفها؟!.. وهو لا يستطيع حتى أن يناديها، كي لا يلفت إليه الانتباه!.. وكيف يأمن شرّ أشخاصٍ، يتنقلون في ذاك الحذر.. ويهرعون، من ظلمةٍ ساترةٍ، إلى أخرى!
تنبه إلى صخرة كبيرة كثرت حولها الحركة.. وتجمعت قربها ظلال كثيرة، تحلقت حول أشخاص صدر عنهم ما يشبه حفحفة العراك!
تقدم في وجلٍ من هؤلاء.. يتلفت حوله، كلما قام بخطوة.. ينظر خلفه، كي لا يفاجأ بما لا يسرّ!
ما إن أصبح على قرب كافٍ، حتى تيقّن مما توقعه، من عددٍ من الأشخاص، يجامع بعضهم بعضاً، عراة، أو أشباه عراة.. وحولهم، تحلّقت تجمعات أخرى، صغيرة العدد، ثلاثة، أو أربعة أشخاص، هنا وهناك.. يتلقّون الوحي و الإثارة من الحلقة الأم!.. يمارسون، في فلكها، ما تفتّق عنه خيالهم، أو هواجسهم الدافعة، الباطنة، وما من رقيبٍ، غريبٍ، يردعهم عمّا يشتهون!.. يحرسهم الظلام، من غيرهم من العيون المتفحصة، ومن أنفسهم، تخيفهم رهبة المكان، والخطرالمحدق بكلٍّ منهم، فيتفتّقٌ خيالهم عن حركاتٍ، أشبه بما قد يبدرعن الإنسان وهو في النزع الأخير!!
لم يجد "بالوما" بين ذلك الجمع.. تريّث برهةً، ثم قرر أن يعود أدراجه إلى سيارة صديقه.. تعامى في البدء عن مضايقة عدد من الأشخاص، كانوا قد حاولوا إشراكه في تلك الطقوس.. تراجع، مبتعداً عنهم، في بطءٍ، وحذر!.. فما كاد يعبر الممر المظلم في سلام، حتى خرج من بين أقواس الجدار، وركض، مسرعاً، نحو سيارة صديقه!}
  #10  
قديم 24/12/2006, 07:43 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي بطاقة تعريف الكاتب

بطاقة تعريف الكاتب:
وليد الحجار

أديب، موسيقي ورسام

سوري من مواليد دمشق 1932، تلقى دراسته الابتدائية والمتوسطة في معهد برمانا العالي الإنكليزي،

حيث بدأ دراسة الموسيقى الكلاسيكية، ثم أنهى دراسته الثانوية في كلية دمشق الأمريكية،

منها انتقل إلى جامعة روبرت كولدج في اسطنبول لدراسة الهندسة المعمارية،

لكنه تركها مؤثراً دراسة الفن في فرنسا، فأقام في باريس حيث انتسب إلى كل من المعهد العالي الوطني لدراسة التأليف الموسيقي،

ومعهد الفنون الجميلة "البوزار" حيث درس الفن التشكيلي.

وفي أواخر الخمسينات سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لإكمال دراسته الأكاديمية فدرس العلوم السياسية،

ونال شهادة الماجستير فيها من جامعة "وسكنسن". هو واسع الثقافة، والاهتمامات، يتقن من اللغات حوالي الخمس أو الست.

هو أديب روائي، عضو في اتحاد الكتاب العرب.

في الأدب:

صدرت له ثلاثية في "البحث عن الأنا" منذ عام 1973 وهى:

"مسافر بلا حقائب" ، "السقوط إلى أعلى" ، "رحلة النيلوفر أو آخر الأمويين"

تقع جميعاً في أكثر من 1500 صفحة. طبعت ثلاثة آلاف نسخة من كلٍ منها وزعت وبيعت جميعاً.

ثم مؤخراً رواية "هيلانة" عام 2002.

في الموسيقى الكلاسيكية:

هو الآن عضو اللجنة الموسيقية العليا في سورية.

وهو للأسف، كمؤلف موسيقي، لازال غير معروف حتى في الأوساط الأكثر تنويراً

أو لدى الفئة "البيروقراطية" المثقفة في بلده الأصلي، بينما هو معروف ومنتشر في أوروبا.

قدم للمكتبة الموسيقية العالمية العديد من الأعمال التي تحتفظ بها معاهد الموسيقى الكلاسيكية في أوروبا،

نذكر منها Piano Solo: (مؤلفات لآلة البيانو)

Sonatine

Toccata

Fuge

Etude 1 Révolutionnaire (Chopeniana)

Etude 2 Nocturne (1). Nocturne (2). Nocturne (3)

Violin and Piano: (مؤلفات لآلتي البيانو والكمان)

Dance Crépusculaire

Romance

Méditation

Prélude Tragique

Adagio

صدر له مؤخراً(CD) في روما يحتوي مؤلفاته الموسيقية لآلتي البيانو والكمان ،

وهو من عزف الفنان الروسي "فيكتور بونين" وأفضل عازفين سوريين:

"غزوان الزركلي": (بيانو)، و" أشرف الكاتب": (كمان).

وقد ظهرت إحدى مؤلفاته في (CD) آخر واسمه "إيماء"

ضم أعمال ثمانية من المؤلفين الموسيقيين الكلاسيكيين العرب.

في الفن التشكيلي:

وهو أيضاً فنان تشكيلي، أقام معارض في روما وبرشلونة وباريس...

وباع الكثير منها هناك، لكنه مع ذلك لم يقم أي معرض للوحاته في العالم العربي.
  #11  
قديم 24/12/2006, 10:33 PM
صورة عضوية فهد الزهيمي
فهد الزهيمي فهد الزهيمي غير متصل حالياً
صحفي رياضي
 
تاريخ الانضمام: 01/12/2006
الإقامة: مسقط
الجنس: ذكر
المشاركات: 6,869
إرسال رسالة عبر مراسل MSN إلى فهد الزهيمي
افتراضي

شكرا أخوي على عرض هذا الموضوع المفيد .. والجميع يعرف هذا الكاتب الراااائع وليد الحجار ..

سوف أرد عليك في وقت لاحق ولدي إنتقاد على هذه الرواية
__________________
.

.. عذرا يا نيوتن فأنا سر الجاذبية ..





  #12  
قديم 27/12/2006, 11:45 AM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة السفير الحزين مشاهدة المشاركات
شكرا أخوي على عرض هذا الموضوع المفيد .. والجميع يعرف هذا الكاتب الراااائع وليد الحجار ..

سوف أرد عليك في وقت لاحق ولدي إنتقاد على هذه الرواية
فعلاًالكاتب غني عن التعريف ...وإلى ذاك الوقت سأتطرق لصفحات أخرى لهذه الرواية ..
ونأمل أن تعجبكم..
  #13  
قديم 27/12/2006, 11:56 AM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
افتراضي

ص330-333)
...نظر إلى السماء، ثم التفت حوله مفتوناً.. لا يصدق، للمرة الثانية، ما رأت عيناه!
شمخت مآذن الجامع الأموي الكبير! ثلاثة صروحٍ جليلةٍ...صروحٌ ثلاثة.. شواهد ثلاثةٌ.. تلهج للإسلام بالعزّة.. ولأمية بالفخار.. تذكّره بما نبض به قلب المدينة يوماً.. فترددت أصداؤه من الصين، حتى بلاد الأندلس!!كم من النوائب أصابت تلك المدينة.. كم من ملايين البشر، تعاقبت على أرضها.. ماتت فيها.. وتبددت أجسادها في كل ذرة من ذرات ترابها!
..ليس تذكّر المرء لموقعة تاريخية ما، مثل وقوفه على بقعة الأرض التي دارت عليها تلك الموقعة.. يسترجع التاريخ في ذهنه.. حتى ليكاد يسمع صوت السلاح، ويرى جثث الموتى بأم عينه!

تاريخ دمشق تجسد أمامه في تلك البيوت القديمة المتشابكة.. تلك الصروح المتجددة، التي ما انفك يهدمها الغزاة، وما تفتأ تعود إلى الحياة.. تهبّ من جسد الأرض، تمتد، وترتفع في الهواء.. أغصانٌ، تنبت من الجذوع المقصوصة ..من السوق المبتورة.. مما تبقى من جذور الشجرة الأم المختفية تحت التراب!! تعود.. مرّة بعد مرّة! موقعة بعد موقعة! كارثة.. عقب كارثة! مذبحة.. تلو مذبحة! ألف مرة.. بعد ألف مرة!!
كم من ملايين الغزاة حاصروا تلك الأسوار.. وكم من مئات المرات دكّوا قواعدها.. بعثروا حجارتها.. ومزّقوا أجساد حُماتها!!.. تقتحم جحافلهم بيوتها.. تسبي نساءها، تقتلع أشجارها.. وتردم آبارها.. ثم تتركها.. خراباً، يباباً.. ليس فيها حجراً فوق حجرٍ.. وما من أثرٍ من كل ما بنى الآباء، وعمّر الجدود!
وكم من مئات المرات.. عاد أهل دمشق إلى البناء من جديد!.. ينكبون على تشييد الجنائن، والقصور.. يعودون إلى حفر الآبار.. وزرع الأشجار.. يخافون الإسراف في زينة قصورهم، في البدء، فما إن يهنأون إلى الحياة، ويعيدون تجميل مساكنهم ببدائع الفن، من رخامٍ وفسيفساء، ورقشٍ وحفر، حتى يذيع صيت مدينتهم.. فيعود الغزاة إليها من جديد.. يدكّون حصونها.. ويهدمون بيوتها!.. يقتلعون جميع ما تقع أعينهم عليه!.. يسرقون الكنوز، والرخام.. ثم يتركون المدينة.. هباباً يباباً.. تسرح الأطفال على ركام بيوتها.. يبكون ويصرخون.. ولا مجيب!وتعود الحياة، من حيث التجأت في الضواحي.. فتقترب من المدينة والخرائب.. في بطءٍ، ووجل.. يرجع من احتمى من سكان دمشق، في قراها المجاورة، إلى مدينتهم.. يعودون للبناء.. مستخدمين الحجارة، كأسلافهم، حتى نفذت الحجارة.. الكبيرة منها، ثم الصغيرة!.. يبحثون عن آثار بيوتهم، بين الركام، حتى ضاعت.. أو يعثر البعض على قواعد الجدران الحجرية، فيهتدون بها.. ويرفعون الأبنية عليها، باللبن والطين.. على أسلوب الآباء والأجداد.. ويبذلون ما تبقّى معهم.. الغالي منه، والرخيص.. للحفاظ على روح المدينة، لإعادتها إلى الحياة، على سابق ما كان لها من رونقٍ وبهاء!
  #14  
قديم 27/12/2006, 12:02 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
Smile

(ص372-373)

{-..ألا يكفي ما نحن عليه من تنكّر.. ألا يكفينا ما نراه من أزياء؟! أمّا عن اللغة.. فأنا موافق.. سنتكلم جميع لغات الأرض، ما عدا العربية! بل يجب أن يُحّرم النطق بالعربية، على كل من هم ليسوا عرباً.. فخورين بعروبتهم!

خرج فراس من دار ماري روز.. يأسف.. للمرة الألف، على ما يصدمه في بلده، من مثل تلك المطالعات المحزنة! .. ولم يكن مبعث ذلك الإحساس كرهه للنقد، أو غيرةً عمياء على انتماءاته ومعتقداته! لقد تعوّد ممارسة، وتقّبّل، أقسى وأمرّ أنواع النقد، في حداثته.. في باريس.. بل تعوّد تجاوز التجريح الشخصي، الذي ألف سماعه من أناسٍ ضعفاء النفوس، لا حجج لديهم!

إنه ليفخر أن تلك الصدامات الفكرية الأولى، لم تفتح ذهنه، لكل جديدٍ، فحسب.. بل كسرت القالب الانطوائي الذي يحمله الكثيرون، والذي يمتلئ، إن عاجلاً أو آجلاً، بمفاهيم معينة، تتلاءم مع بيئة وظروف الشخص.. فإذا به يشعر بالكفاية والامتلاء الذهني، فينغلق القالب على ذاته، معطياً لما فيه، شكله النهائي، وللذاتية الذهنية، طابعها الخاص .. الملقّب بالشخصية..

هل غريزة العودة تلك، دفينة في ثنايا السلاسل الغريزية لجميع المخلوقات؟! فترى، حتى الإنسان الحضاريّ، الواعي، يتمسك بما ألفه أو تعلمه، خلال نشأته الأولى.. كأنها أمور مُنزَلةٌ، لا محيد له عنها! بل يصل تعلّقه بتلك الأصول، لدرجة، تصبح عندها في ذهنه حقائق بديهية، ليس للعلم وللمحاكمة، والذكاء، من مهمة في الحياة، سوى إعادة اكتشافها.. وتجديد البرهنة عليها! وتكرار التأكيد بأن لا حقائق في الكون جديرة بالحياة، سوى ما طبعت عليه البصيرة، وهي في طور النشوء!!

ألهذا السبب تبقى جميع الأمم على أسس طبائعها الأولى؟! تستميت من أجل عقائدها البيئية؟ تسجد أكبر العقول للدين الذي نشأت عليه، كأن لا دين سواه! وتبقى أكثر الأذهان تفتحاً، مغلقة على ما ينافيه؟! لا هم لها سوى دراسة تعاليم "العدو".. وتفنيد حججه "الشيطانية"!!

أليس غريباً أن تضرب عقول جهابذة، من أمثال سقراط، وفيثاغورث، وأرسطوطاليس، وأفلاطون، في طول الكون الفكريّ وعرضه.. حينما تناقش العلوم، والفلسفة.. وتبقى، فيما يتعلق بالأمور الغيبية الإلهية، رهينة لمفاهيم بيئتها الأولى.. أسيرة، لطقوسٍ هزيلةٍ تثير الضحك، والسخرية في النفوس، اليوم؟! فإذا كان سقراط قد ضحّى ﻠ "أبولّو".. فهل من الغريب على "غاندي" أن يضحّي ﻟ "كريشنا"؟! وأين العجب في بقاء عقول الديانات السماوية الثلاث، اليوم، كلٌ على "معجزاتها"، وطقوسها.. يتمسك كل عالِمٍ من علمائها، بحذافير أقاويل دينه.. أو طائفته.. فلا يرى الصواب، والحقّ إلا في المعتقدات التي حُفرت في بنائه النفسيّ، أثناء نشوء وتبلور ذلك البناء، زمن طفولته المبكرة الأولى!}
  #15  
قديم 27/12/2006, 12:07 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
Smile

(ص393-396)

{- لابد أن في متعة، أو لذّة، كل إنسان، من الذاتيّة، والخصوصية، ما يميّزها عن تلك التي لإنسان آخر.. لكن جملة اللّذات، والإحساسات الجمالية، التي لجماعةٍ ما، في مكانٍ ما، تتحد بدورها.. رغم اختلافات جزئياتها.. فتشكل وحدة جديدة، في دائرة أكبر..
لكن.. ترى هل تستوي اللذات في كل زمان ومكان؟!هل تستوي لذّة لقاء الحبيب.. لدى السارق، والشاعر؟! وهل تستوي لذّة الثأر.. لدى المؤمن، والكافر؟! بل هل تستوي لذّة الجماع لدى المومس، والعذراء؟! لدى العفيف الطاهر.. والفاسق، الفاجر؟!
أنا من جهتي.. لا أظن ذلك.. إذ أن لكل إحساسٍ ظرفه، مكانه.. وبما أن العالم متباين الأبعاد والظروف.. متأرجح العادات والتقاليد.. متقلّب القيم والمفاهيم.. فلا بدّ فيه من مكان ما، يمكن للإنسان أن يقف فيه، ولو نسبياً، فيضع، أو يراقب شعرة ميزانٍ وهميةٍ.. تشير إلى ما يمكن للأضداد أن تصل إليه، إذا ما هي تفاعلت.. وتنبئه إلى ما في استطاعة المتناقضات أن تستوي عليه، إذا ما هي اتّحدت!

هذه النقطة المتوسطة.. هذه الشعرة الدقيقة لميزان العالم المتقلّب الأهواء.. بين روحانية آسيا، ومادية الغرب.. هي بلاد الشام!.. ولقد كانت كذلك.. منذ الأزل! وكانت دمشق، بالذات، منذ حروب الفرس والإغريق، نقطة الوسط.. محصلة الحلول بين البذخ المادي والروحي للهند وفارس.. وبين التقشف الفكريّ والنفسيّ، الضنك، للإغريق، ومن عاش إلى غربهم وشمالهم في أوربا، من الشعوب الهمجية التي لم تكن تعرف غير البرد والجوع!!

ص433-441)

{جلس في فراشه، يتصفح ذلك الفهرس من جديد، لا ينفكّ يقلّب صفحاته.. يعيد قراءة العناوين المجهولة، لمعظم مشاهيرالكتّاب العرب والمسلمين.. يخمّن ما يمكن أن يحتويه هذا، أو ذاك المخطوط، من معلومات قيمة أو تاريخية أمضى فترة على تلك الحال، فإذا بتعدّد وسعة مواضيع تلك العناوين، يترسب في مخيلته.. فيزداد إحساسه بالجهل، لما قد غاب عنه من التراث، وهو المحبّ، الباحث، عن كل كتاب علمٍ أو معرفة
على الفور إلى التحقق من وجود مخطوطاتٍ تحمل تلك العناوين المجهولة، وتعقّب سرّ اختفائها!
تبسم وهو يذكر قولاً قديماً حفرته جدته في ذاكرة طفولته، قولاً كان يطفو إلى وعيه، كلما واجه مجهولاً يرتبط بالعروبة والإسلام:
" أنتم، أحفاد أهل البيت، لكم حق الشفاعة، يوم الدين.. لكن عليكم فرض، واجب.. لا تكتمل آخرتكم دون تحقيقه.. هو إظهار ما اختفى من القول الحق.. رأب الصدع بين المسلمين.. وإحياء ما استشهد في سبيله الصالحون!"
  #16  
قديم 27/12/2006, 12:09 PM
king1 king1 غير متصل حالياً
خاطر
 
تاريخ الانضمام: 09/12/2006
الإقامة: سلطنة عمان
المشاركات: 36
Smile

إذا كانت هنالك كتبٌ مفقودةٌ.. تحمل تلك الأسماء المجهولة.. فتلك قضية حية، وليست وهماً في خاطره! والبحث عنها واجبٌ ثقافيٌ، حضاريّ! فما بالك إذا كان جميع ما سمعه صحيحاً، من أن هنالك من يتلاعبون بالتراث.. يزورون المعرفة والتاريخ.. وأنهم يقومون بذلك في جدّ، ودأب، منذ عدة قرون! ويواصلون جهدهم، بوعيٍ جهنميٍّ، في سريّة تامة، حتى تلك الساعة!! في حين أن أصحاب التراث ساهون، غافلون.. يجرّح بعضهم بعضاً، يحرّضهم على ذلك ما يدسّ لهم أولئك الأغراب من سمٍّ في ثقافتهم الناقصة!

مال في فراشه، يجذب آلة الهاتف إليه، يبغي الشروع بمكالمة أشخاصٍ على علمٍ واسعٍ في ذلك الخصوص.. وإذا بالمخطوط يسقط من يده، فيرتطم على الأرض، على حدّة.. مما كاد يمزّق الغلاف القديم، ويبعثر لوحاته التي جمعت بخيوطٍ باليةً.. أوشكت تتفتت..

رفعه في حرص شديدٍ.. يحاول شدّ الغلاف.. يعيده إلى ما كان عليه.. وإذا بطرف ورقةٍ مخفيّةٍ، مطويةٍ.. يبدو من تحت حافة الغلاف.. كان الصمغ قد أخفاها عن النظر! سحبها في بطء، خوفاً من تمزقها.. فإذا بها لفافة ورقٍ طويلة، أُخفيت ضمن الغلاف.. فتحها، في حذرٍ شديدٍ، ليقرأ عليها النص التالي:

" إعلم يا أخي، أني عبدٌ مأمور.. لا حول له ولا قوة، وإني ماعُدتُ إلى طليطلة، من فاس، إلا بأمرٍ من الملك "فيليب".. نحمل إليه كتباً من خزانة السلطان.. إن القادر الذي لا يعجزه شيء، قد شاء أن ينكشف أمر صاحبي وخليلي، فأذاقه "فيليب" من السم الفاتك الذي أتيناه به من فاس حسب طلبه! وإني، لا محال، هالك بالسمّ نفسه.. إن عاجلاً أو آجلاً! ولن أُترك حراً طليقاً، لأذيع خبر النُسّاخ المائة والخمسين، الذين أنا منهم، نعمل، ليلاً، نهاراً.. في إعادة كتابة ما لدينا من مخطوطات عربيّة! ولعل السلطان.. أدام الله عزّه، هوالذي أمر بالقضاء علينا، بعد أن علمنا من أمر ما أجراه النُسّاخ من تعديلٍ على مخطوطات كتاب "العِبَر"، الذي حملناه معنا من خزانته! والذي لا يحمل، في الأصل كلمة "بربر" في عنوانه! إعلم يا أخي، أن هذه شهادتي قبل أن أموت.. وإني أقسم بالله العظيم، وبالقرآن الكريم، أني رأيت النُسّاخ "الموريسكاس" يعيدون نسخ كتاب "العِبَر"، وغيره، فيبدّلون كل ذكرٍ لكلمة "أعرابي" بكلمة "عربي"، في كتاب ابن خلدون، ويضيفون إليه فصولاً بكاملها، في مدح البربر، حسب مشيئة السلطان، وبذمّ العرب، حسب ما بنفوس أصحاب الدير.. يحذفون فصولاً بكاملها، في ذكر مآثر العرب.. مما كتبه ابن خلدون! إعلم يا أخي، إن السمّ الذي أتينا به، من فاس، سيستر هذه الحقيقة إلى الأبد، عن أهل الدنيا قاطبة! واعلم أن هذه الورقة، هي شهادتي أمام ربّي، يوم الحشر.. وأن هذا الفهرس الذي أدفن شهادتي فيه، هو واحدٌ من أربعة فهارس، تضم أسماء ما جرى التعديل والتبديل عليه، من كتب! وإن جميع ما يظن المسلمون إنها أصول مخطوطة في خزائنهم، إنما هي نُسَخٌ زُوِّرت بخطٍ يماثل خط وتواقيع أصحابها!.. وأنا ومن معي من "الموريسكاس" الإسبان، أنا الذي أكتم إسلامي، وعروبتي.. قد ساعدت في هذا العمل الكريه، أسوة بمن حولي، من مسلمين، غُلبوا على أمرهم! نعمل سوية، مع مولّدين ويهود، جميعاً في خدمة "الأسكوريال" والملك "فيليب" المأفون، الذي قرّر طردنا جميعاً من الأندلس! ربي اجعل من لدنك قوة تخرج هذا الفهرس من هذا الدير! سأقذف به من الفتحة هذه، علّه يبقى سليماً حتى أصل إليه.. أو ينقذه أحدٌ من المؤمنين.. ربي هذه شهادتي، يوم الدين.. والآن أشهد أن لاإله إلا الله.. وأنّ محمّداً عبده ووليه ورسوله"
  #17  
قديم 27/12/2006, 12:17 PM
صورة عضوية ورود الأندلس
ورود الأندلس ورود الأندلس غير متصل حالياً
عضو مميز
 
تاريخ الانضمام: 01/12/2006
الإقامة: .. في الطريق أواصل المشوار ..
المشاركات: 2,939
افتراضي

سأقرأ الرواية كاملة لأن عنوانها باسم معرفي يا سيدي الفاضل
__________________
.



¨o.O O.o¨

قــــــالـ السمــــاء كئيبة وتجهمـــا،،
قلت إبتسم يكفي التجهمـ في السماء

قــــــالـ الليالي جــــــــرعتني علقما
قلت إبتسم ولئنـ جرعــــت العلقما،،

أتـــــراكــ تغنــــــم بالتبرم درهــما،،
أم أنــــت تخســــر بالبشاشة
مغنما

¨o.O O.o¨


.
  #18  
قديم 28/12/2006, 04:59 PM
صورة عضوية زين ابوها
زين ابوها زين ابوها غير متصل حالياً
مميزة سبلة التصوير
 
تاريخ الانضمام: 07/12/2006
الإقامة: In The School !
الجنس: أنثى
المشاركات: 20,702
افتراضي

شكرا اخووي
__________________
افعل الشيء الصحيح فأن ذلك سوف يجعل البعض ممتناً بينما يندهش الباقون
.................................................. .....................................(مارك توين)

رابطة طلاب الصف الحــ11ــادي عشرـر "هنآآ"
  #19  
قديم 29/12/2006, 03:04 PM
صورة عضوية New_Life
New_Life New_Life غير متصل حالياً
محظور
 
تاريخ الانضمام: 15/12/2006
الإقامة: عند باب حرم امير المؤمنين علي (ع)
المشاركات: 1,104
افتراضي

شكرا أخوي على عرض هذا الموضوع المفيد
  #20  
قديم 29/12/2006, 03:05 PM
صورة عضوية New_Life
New_Life New_Life غير متصل حالياً
محظور
 
تاريخ الانضمام: 15/12/2006
الإقامة: عند باب حرم امير المؤمنين علي (ع)
المشاركات: 1,104
افتراضي

up up up
  #21  
قديم 04/01/2007, 11:11 AM
شنين الخربوشي شنين الخربوشي غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 03/12/2006
المشاركات: 335
افتراضي

شكرا لك
 


قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى



جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 05:16 AM.

سبلة عمان :: السنة ، اليوم
لا تمثل المواضيع المطروحة في سبلة عُمان رأيها، إنما تحمل وجهة نظر كاتبها