سبلة عمان

العودة   سبلة عمان » السبلة الدينية

ملاحظات \ آخر الأخبار

 
 
أدوات الموضوع البحث في الموضوع أنماط العرض
  #1  
قديم 30/01/2007, 11:13 AM
إباضي 2007 إباضي 2007 غير متصل حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 15/01/2007
المشاركات: 65
افتراضي صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى .. هل عرفته ؟

الربيع بن حبيب
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ

نحن الآن في البصرة ، مدينة العلم والعلماء ، على عهد الجبار الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي .. يحين وقت الصلاة
يقول الإمام جابر بن زيد : الرواح إلى الجمعة
يسأله حبيب بن عمرو : أخلف الحجاج ؟!
فيقول الإمام جابر : نعم ، إنها صلاة جامعة ، وسنة متبعة .
وهكذا ظلّ حبيب بن عمرو مع الإمام جابر بن زيد مدة من الزمن ، ينهل من علمه ، ويروي من معينه ، ثم يعود إلى موطنه الأصلي عمان .

* * *

وفي أحد الأيام يرزق حبيب بمولود ذكر ، ويستقبل الوجود فردا جديدا ، ولم يكن يعلم حينها حبيب الخير والفضل الذي سيناله ابنه الذي سمّاه الربيع ، ولم يكن يعلم حينها أن اسمه ستمتلأ به أفواه العلماء والمحدثين ..
وهكذا تمرّ الأيام والسنون ، وحبيب يرى ابنه الربيع يزداد يفاعا وذكاء ، وكلّ يوم يلمح فيه مخائل النجابة والفطنة ، فقرّر أن يرسله إلى البصرة .. نعم البصرة ، التي كان هو فيها يوما ما ، ولئن فاته منها الخير الكثير ، فلعلّ حلمه وأمانيه تتحقّق في ابنه الذي يعزّه ويحبّه .
وهكذا تجشّم الربيع مشاقّ السفر ومصاعب الطريق من عمان إلى البصرة ؛ طلبا للعلم وتحقيقا لرغبة والده ..
وشاء الله أن يصل الربيع إلى البصرة سالما ، وهنالك أخذ يسأل عن الإمام جابر بن زيد الذي أخذ عنه أبوه من قبل ، فدلّوه عليه ، فلازمه وصحبه ، يسمع منه حديث الرسول  ، ويروي غليله من العلم .. ولكن لم تطل ملازمة الربيع للإمام جابر ؛ إذ شاءت إرادة الله أن ينتقل الإمام جابر بعد فترة ليست بالطويلة من وصول الإمام الربيع .
وقد حزن الربيع على فراق شيخه حزنا عظيما ، ولئن فاته الإمام جابر ففي من بقي خير كثير ، فهناك الإمام أبو عبيدة مسلم الذي قيل عنه : إنه أدرك من الصحابة من أدركه جابر ، وقد تولى إمامة المسلمين بعد الإمام جابر بن زيد ، وهنالك ضمام بن السائب ، الذي يعدّ راوية جابر ، أغلب فتاواه قال جابر ، وسمعت جابرا ، وسألت جابرا .. وهنالك أبو نوح صالح الدّهان .. فأخذ عنهم ، وتعلّم على يديهم ؛ كما حدّث عن نفسه قائلا : " إنما حفظت الفقه عن ثلاثة : أبي عبيدة وضمام وأبي نوح " .

* * *

كان الإمام الربيع عالما فقيها ، ومحدّثا أمينا ، قال عنه شيخه الإمام أبو عبيدة : " فقيهنا وإمامنا وتقيّنا " .
وناهيك من الشاهد ! إنه إمام المسلمين في وقته ، ومرجعهم في المسألة والفتوى ، الذي توثّق أقواله وتدوّن .
وليست الشهادة كأيّ شهادة ! إنها شهادة بالفقه ، والرسول  يقول : من يرد الله به خيرا يفقه في الدين » ، والعلماء ورثة الأنبياء .
وليس هذا فحسب ؛ بل إنها شهادة بالتقوى أيضا ، التي تعتبر ميزان الإيمان ومقياسه ، قال تعالى :  إن أكرمكم عند الله أتقاكم  .
ومع الشهادة بالتقوى والفقه نجد الشهادة بالإمامة .. نعم إنها الإمامة في الدين ، التي تستلزم التقوى والفقه والأمانة والقيادة والريادة والخبرة والحكمة ..
ولما أصاب أبا عبيدة الفالج ، وحضر خروج الناس إلى موسم الحج ؛ مضى حاجب إلى أبي عبيدة وعبدالله بن عبدالعزيز ليبعثه إلى الموسم ، فأبى أبو عبيدة وقال : لا أفعـــل .
فقيل له : فالمثنى بن معروف .
قال : نعم .
فبعث إلى المثنى في ذلك ، فقال المثنى : ما كنت لأفعل ، أخرج مع الربيع ؟! والربيع حاله في فضله وسنه ومعرفته على ما تعلمون ! فما أشير عليكم أن تبعثوا غلاما حدثا مثلي مع الربيع ، فيقال : لن نجد من نبعث إلى الموسم إلا هذا الغلام ، وفي الربيع كفاية عمن سواه .
فبلغ قوله أبا عبيدة ، فازداد في نفسه له محبة ، وازداد عندهم بذلك رضى ، وقال أبو عبيدة : صدق المثنى ، فتوجه الربيع للناس يومئذ .
والإمام الربيع ــ رحمه الله ــ ما كان يبخل بعلمه على غيره قطّ ، بل كان يؤدي حقّ الله فيه .. ذكروا أن رجلا في الطواف ينادي : يا معشر الفقهاء ، ما تقولون في رجل عليه دم ، ولا يمكنه دم ؟ فقال له الربيع : إليّ يا صاحب المسألة ، فجاء إليه ، فأجابه عن مسألته .
ولقد تتلمذ على الربيع الجمّ الغفير ، الذين انتشروا في شتى بقاع الدولة الإسلامية المترامية الأطراف في ذلك الوقت ، فهنالك تلاميذه من عمان واليمن والحجاز ، وخراسان والعراق ..
ولئن نال الرجال حظهم من علم الربيع ، فلم يكن حظّ النساء منه ممنوعا ، فقد كنّ حريصات على سؤاله والاستفادة منه.

* * *

بعد وفاة الإمام أبي عبيدة ــ رحمه الله ــ تولّى الإمام الربيع زعامة المسلمين لمدة ثلاثين سنة تقريبا ، فكان القياديّ الحكيم ، والربّان الماهر ، وتحقّقت فيه نبؤوة شيخه أبي عبيدة .
اتبع الإمام الربيع تنظيما محكما في سياسته ، فكان يحلّ نزاعات المسلمين ومشكلاتهم ، ويتخذ تدابير حازمة ضدّ الشانئين المنشقّين ، فكان يأمر بعدم عيادتهم ومخالطتهم ، وينهى عن الجلوس معهم وتشييع جنائزهم ، وقد يسلك معهم مسلك المرونة إذا رأى منهم السكوت رغبة في رجوعهم وإذعانهم .
قدم عليه ذات يوم أبرهة بن عطية الذي خالف المسلمين في أمر القدر ، فنزل في جواره ، فكان يدخل ويسلّم عليه ..
قال أبرهة : يا أبا عمرو ، رجل من إخوانك !
فقال الربيع : من أيّ البلاد أنت ؟
قال : من أهل الشام .
فلم يفتش الربيع ، فكان أبرهة يختلف إليه ، ويسأله عن الفقه ، ولا يحرّك شيئا من أمر القدر ، فلبث بذلك أياما حتى دخل على الربيع بعض المسافرين ، فقال له الربيع : سلّم على أخينا هذا ، فسلّم عليه ، ثم قال : ممن أنت يا فتى ؟
قال أبرهة : من أهل الشام .
قال : ما بالشام أحد من أهل هذه الدعوة ، فمن أيّ الشام أنت ؟
قال أبرهة : من أهل الجزيرة .
قال : لعلك ابن عطية .
قال أبرهة : نعم
قال : يا أبا عمرو ، هذا ابن عطية الذي أهلك أهل نجران هو وأبوه من قبله ، فلا يدخلن عليك ، ولا تنعمه علينا .
قال الربيع : أسرعت على الرجل .
قال أبرهة : يا أبا عمرو ، ما سألتك قطّ عن أمر تنكره ، إنما أريد أن أسألك عما يحتاج إليه الناس من الفقه من الحلال والحرام .
فخرج الرجل ، وأتى وائلا والمعتمر وعبدالملك وجماعة ، فأعلمهم بحال الرجل ، فمشوا إلى الربيع مغضبين ، فدخلوا عليه ، فقالوا : أنزلت ابن عطية وقرّبته .
قال الربيع : لا يجمل بمثلي أن أردّ من يأتيني ، مع أن الرجل لم يسألني عن شيء أكرهه ، ولم أكن علمت به .
قالوا : فلا يدخل عليك ، لا تفته في مسألة واحدة .

فلما غلبوا عليه حمل نفسه على رده ، فأتاه أبرهة كما كان يأتيه ، فلم يأذن له ، فبكى وقال : ما كنت أظن الربيع في فضله وورعه وحاله يرد مثلي ، وإنما أسأله عما ينتفع به الناس من أمر دينهم ، فارتحل إلى مكان آخر .
ومع هذه الشدّة والصرامة مع المنشقين عن صفّ المسلمين ؛ نجده رحيما بإخوانه ، حريصا على رعاية شؤونهم ، يقضي حاجاتهم ويكفل أيتامهم .
ذهب ذات يوم لزيارة المليح بن حسّان ، فدخل عليه والمليح مريض ، فقال الربيع لجارية المليح : يا قرشية ، هاتي الطعام ، فتهلّل وجه المليح حتى قام فقعد كأن ما كان به من المرض قليل ولا كثير ، فأتت الجارية بالطعام ، فقال الربيع للقوم : كلوا ، فأكل القوم ، وكان الإمام الربيع صائما .
وأرسل بعد وفاة المليح إلى بناته من يقرئهنّ السلام ، ويعزّيهنّ عنه في أبيهنّ ، ويقول لهنّ : " إن المليح كان عندنا ممن يدين بالوصية ، ويراها حقّا عليه واجبا ، وإنه قد مات وعليه الأمر ولم يوصِ " ، وأمرهنّ بإخراج كذا وكذا من الدنانير عنه في قراباته وكفارات أيمانه .
وقد كان الإمام الربيع حريصا على تبصير الناس بأمور دينهم ، وإقناعهم بالصواب ، ودفع الشكّ والالتباس الذي قد يعتريهم ؛ خصوصا في أمور العقيدة والتوحيد .
جاء إليه وإلى وائل بن أيوب رجل من الصفرية يريد التوبة ، فقالا له : نبيّن لك الإسلام ، ولكن لا تكون لك عندنا ولاية حتى تأتي إلى قومك الذين دعوتهم ؛ لأنك كنت داعيا تدعو الناس ، فتبيّن أني كنت أدعوكم إلى غير الحقّ ، وأني قد تبت من ذلك ، وقد رجعت ، فاعلموا يا قوم .. فذهب الرجل فأخبرهم ، ثم رجع إليهم بعد ذلك ، فعرضوا عليه الإسلام .

* * *

لقد كان الإمام الربيع مضرب المثل في العلم والتقوى والأمانة ، حتى قالوا : لا يقبل القرآن من أيّ شخص حتى يكون مثل الربيع .. نعم في تقوى الربيع وورعه ، وخشيته وخوفه ، وعلمه وفقهه .
وقد اجتمع يوما وائل بن أيوب والمعتمر بن عمارة وجماعة إلى الربيع ، فسألوه أن يخرج إلى الموسم ..
قال الربيع : لا أقدر ، وما عندي ما أتحمّل به .
نعم .. زعيم المسلمين وقائدهم وليس عنده مال .. فلينظر أرباب الأموال الذين يضيّعون فرائض الله الواجبة ! .. وليست النافلة !!
فمشوا إلى رجل من المسلمين يقال له النظر بن ميمون ، وكان رجلا موسرا من تجار المسلمين ، فأعلموه بقول الربيع ، فأتاه النظر بأربعين دينارا ، وقال : حجّ بها ، فلم يقبلها منه ، وكان به خاصا .
فجاءه وائل والمعتمر ، فقالا له : سبحان الله يا أبا عمرو ، تعلم حاجة الناس إليك ، وكنت اعتللت بأنك لا تجد ما تحمل عليه ، فلما جاءك الله بما تتمتع به أبيت أن تقبل !!
قال الربيع : إنه قال لي خذها على أنك تحجّ بها ، ولست أقبلها على شرط .
فأتوا إلى النظر ، فأعلموه بما كره من قوله ، فاعتذر وقال : والله ما علمت أنه يكره ذلك ، والآن فخذوها أنتم ، فادفعوها إليه .
فأبى الإمام الربيع أن يقبلها بعد ذلك .

* * *

بعد رحلة طويلة من الجهاد في نشر العلم والهداية بين العالمين ؛ يشتاق العبد إلى لقاء ربه ، فيحبّ الله لقاءه ، فيقبض روحه بين أهله وذويه في غضفان من موطنه الأصلي عمان .
وحزن عليه المسلمون حزنا عظيما ، وبكاه تلاميذه من بعده ، وصلى عليه صلاة الغائب في إزكي تلميذه الكبير وشيخ المسلمين في عمان موسى بن أبي جابر .
وسيظلّ المسلمون يذكرونه إلى يوم الدين كلما نظروا في مسنده المشهور ،الذي يعدّ أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم ، قال أبو عمرو الربيع بن حبيب : حدثنا أبو عبيدة .. وعندما يطالعون كتب الأثر ، قال الربيع ، وهذا رأي الربيع ..
رحم الله الإمام الربيع ، فقد كان أحد أعاجيب هذه الدنيا .
  #2  
قديم 30/01/2007, 07:06 PM
صورة عضوية الشمس الوهاجة
الشمس الوهاجة الشمس الوهاجة غير متصل حالياً
عضو مميز
 
تاريخ الانضمام: 01/12/2006
الإقامة: مجرة درب التبانة
الجنس: أنثى
المشاركات: 1,115
افتراضي

جزاك ربي الجنة
__________________
اقتباس:
عجبت لمن يغسل وجهه عدة مرات في النهار ولا يغسل قلبه

مرة واحدة في السنة

ميخائيل نعيمة
  #3  
قديم 30/01/2007, 09:43 PM
ابن الاسلام ابن الاسلام غير متصل حالياً
عضو جديد
 
تاريخ الانضمام: 13/01/2007
المشاركات: 63
افتراضي

أحسنت وأجملت
  #4  
قديم 31/01/2007, 04:01 PM
صورة عضوية لهب
لهب لهب غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 18/01/2007
الإقامة: الدنيا
الجنس: ذكر
المشاركات: 125
افتراضي

اقتباس:
أرسل أصلا بواسطة إباضي 2007 مشاهدة المشاركات
الربيع بن حبيب
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ

نحن الآن في البصرة ، مدينة العلم والعلماء ، على عهد الجبار الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي .. يحين وقت الصلاة
يقول الإمام جابر بن زيد : الرواح إلى الجمعة
يسأله حبيب بن عمرو : أخلف الحجاج ؟!
فيقول الإمام جابر : نعم ، إنها صلاة جامعة ، وسنة متبعة .
وهكذا ظلّ حبيب بن عمرو مع الإمام جابر بن زيد مدة من الزمن ، ينهل من علمه ، ويروي من معينه ، ثم يعود إلى موطنه الأصلي عمان .

* * *

وفي أحد الأيام يرزق حبيب بمولود ذكر ، ويستقبل الوجود فردا جديدا ، ولم يكن يعلم حينها حبيب الخير والفضل الذي سيناله ابنه الذي سمّاه الربيع ، ولم يكن يعلم حينها أن اسمه ستمتلأ به أفواه العلماء والمحدثين ..
وهكذا تمرّ الأيام والسنون ، وحبيب يرى ابنه الربيع يزداد يفاعا وذكاء ، وكلّ يوم يلمح فيه مخائل النجابة والفطنة ، فقرّر أن يرسله إلى البصرة .. نعم البصرة ، التي كان هو فيها يوما ما ، ولئن فاته منها الخير الكثير ، فلعلّ حلمه وأمانيه تتحقّق في ابنه الذي يعزّه ويحبّه .
وهكذا تجشّم الربيع مشاقّ السفر ومصاعب الطريق من عمان إلى البصرة ؛ طلبا للعلم وتحقيقا لرغبة والده ..
وشاء الله أن يصل الربيع إلى البصرة سالما ، وهنالك أخذ يسأل عن الإمام جابر بن زيد الذي أخذ عنه أبوه من قبل ، فدلّوه عليه ، فلازمه وصحبه ، يسمع منه حديث الرسول  ، ويروي غليله من العلم .. ولكن لم تطل ملازمة الربيع للإمام جابر ؛ إذ شاءت إرادة الله أن ينتقل الإمام جابر بعد فترة ليست بالطويلة من وصول الإمام الربيع .
وقد حزن الربيع على فراق شيخه حزنا عظيما ، ولئن فاته الإمام جابر ففي من بقي خير كثير ، فهناك الإمام أبو عبيدة مسلم الذي قيل عنه : إنه أدرك من الصحابة من أدركه جابر ، وقد تولى إمامة المسلمين بعد الإمام جابر بن زيد ، وهنالك ضمام بن السائب ، الذي يعدّ راوية جابر ، أغلب فتاواه قال جابر ، وسمعت جابرا ، وسألت جابرا .. وهنالك أبو نوح صالح الدّهان .. فأخذ عنهم ، وتعلّم على يديهم ؛ كما حدّث عن نفسه قائلا : " إنما حفظت الفقه عن ثلاثة : أبي عبيدة وضمام وأبي نوح " .

* * *

كان الإمام الربيع عالما فقيها ، ومحدّثا أمينا ، قال عنه شيخه الإمام أبو عبيدة : " فقيهنا وإمامنا وتقيّنا " .
وناهيك من الشاهد ! إنه إمام المسلمين في وقته ، ومرجعهم في المسألة والفتوى ، الذي توثّق أقواله وتدوّن .
وليست الشهادة كأيّ شهادة ! إنها شهادة بالفقه ، والرسول  يقول : من يرد الله به خيرا يفقه في الدين » ، والعلماء ورثة الأنبياء .
وليس هذا فحسب ؛ بل إنها شهادة بالتقوى أيضا ، التي تعتبر ميزان الإيمان ومقياسه ، قال تعالى :  إن أكرمكم عند الله أتقاكم  .
ومع الشهادة بالتقوى والفقه نجد الشهادة بالإمامة .. نعم إنها الإمامة في الدين ، التي تستلزم التقوى والفقه والأمانة والقيادة والريادة والخبرة والحكمة ..
ولما أصاب أبا عبيدة الفالج ، وحضر خروج الناس إلى موسم الحج ؛ مضى حاجب إلى أبي عبيدة وعبدالله بن عبدالعزيز ليبعثه إلى الموسم ، فأبى أبو عبيدة وقال : لا أفعـــل .
فقيل له : فالمثنى بن معروف .
قال : نعم .
فبعث إلى المثنى في ذلك ، فقال المثنى : ما كنت لأفعل ، أخرج مع الربيع ؟! والربيع حاله في فضله وسنه ومعرفته على ما تعلمون ! فما أشير عليكم أن تبعثوا غلاما حدثا مثلي مع الربيع ، فيقال : لن نجد من نبعث إلى الموسم إلا هذا الغلام ، وفي الربيع كفاية عمن سواه .
فبلغ قوله أبا عبيدة ، فازداد في نفسه له محبة ، وازداد عندهم بذلك رضى ، وقال أبو عبيدة : صدق المثنى ، فتوجه الربيع للناس يومئذ .
والإمام الربيع ــ رحمه الله ــ ما كان يبخل بعلمه على غيره قطّ ، بل كان يؤدي حقّ الله فيه .. ذكروا أن رجلا في الطواف ينادي : يا معشر الفقهاء ، ما تقولون في رجل عليه دم ، ولا يمكنه دم ؟ فقال له الربيع : إليّ يا صاحب المسألة ، فجاء إليه ، فأجابه عن مسألته .
ولقد تتلمذ على الربيع الجمّ الغفير ، الذين انتشروا في شتى بقاع الدولة الإسلامية المترامية الأطراف في ذلك الوقت ، فهنالك تلاميذه من عمان واليمن والحجاز ، وخراسان والعراق ..
ولئن نال الرجال حظهم من علم الربيع ، فلم يكن حظّ النساء منه ممنوعا ، فقد كنّ حريصات على سؤاله والاستفادة منه.

* * *

بعد وفاة الإمام أبي عبيدة ــ رحمه الله ــ تولّى الإمام الربيع زعامة المسلمين لمدة ثلاثين سنة تقريبا ، فكان القياديّ الحكيم ، والربّان الماهر ، وتحقّقت فيه نبؤوة شيخه أبي عبيدة .
اتبع الإمام الربيع تنظيما محكما في سياسته ، فكان يحلّ نزاعات المسلمين ومشكلاتهم ، ويتخذ تدابير حازمة ضدّ الشانئين المنشقّين ، فكان يأمر بعدم عيادتهم ومخالطتهم ، وينهى عن الجلوس معهم وتشييع جنائزهم ، وقد يسلك معهم مسلك المرونة إذا رأى منهم السكوت رغبة في رجوعهم وإذعانهم .
قدم عليه ذات يوم أبرهة بن عطية الذي خالف المسلمين في أمر القدر ، فنزل في جواره ، فكان يدخل ويسلّم عليه ..
قال أبرهة : يا أبا عمرو ، رجل من إخوانك !
فقال الربيع : من أيّ البلاد أنت ؟
قال : من أهل الشام .
فلم يفتش الربيع ، فكان أبرهة يختلف إليه ، ويسأله عن الفقه ، ولا يحرّك شيئا من أمر القدر ، فلبث بذلك أياما حتى دخل على الربيع بعض المسافرين ، فقال له الربيع : سلّم على أخينا هذا ، فسلّم عليه ، ثم قال : ممن أنت يا فتى ؟
قال أبرهة : من أهل الشام .
قال : ما بالشام أحد من أهل هذه الدعوة ، فمن أيّ الشام أنت ؟
قال أبرهة : من أهل الجزيرة .
قال : لعلك ابن عطية .
قال أبرهة : نعم
قال : يا أبا عمرو ، هذا ابن عطية الذي أهلك أهل نجران هو وأبوه من قبله ، فلا يدخلن عليك ، ولا تنعمه علينا .
قال الربيع : أسرعت على الرجل .
قال أبرهة : يا أبا عمرو ، ما سألتك قطّ عن أمر تنكره ، إنما أريد أن أسألك عما يحتاج إليه الناس من الفقه من الحلال والحرام .
فخرج الرجل ، وأتى وائلا والمعتمر وعبدالملك وجماعة ، فأعلمهم بحال الرجل ، فمشوا إلى الربيع مغضبين ، فدخلوا عليه ، فقالوا : أنزلت ابن عطية وقرّبته .
قال الربيع : لا يجمل بمثلي أن أردّ من يأتيني ، مع أن الرجل لم يسألني عن شيء أكرهه ، ولم أكن علمت به .
قالوا : فلا يدخل عليك ، لا تفته في مسألة واحدة .

فلما غلبوا عليه حمل نفسه على رده ، فأتاه أبرهة كما كان يأتيه ، فلم يأذن له ، فبكى وقال : ما كنت أظن الربيع في فضله وورعه وحاله يرد مثلي ، وإنما أسأله عما ينتفع به الناس من أمر دينهم ، فارتحل إلى مكان آخر .
ومع هذه الشدّة والصرامة مع المنشقين عن صفّ المسلمين ؛ نجده رحيما بإخوانه ، حريصا على رعاية شؤونهم ، يقضي حاجاتهم ويكفل أيتامهم .
ذهب ذات يوم لزيارة المليح بن حسّان ، فدخل عليه والمليح مريض ، فقال الربيع لجارية المليح : يا قرشية ، هاتي الطعام ، فتهلّل وجه المليح حتى قام فقعد كأن ما كان به من المرض قليل ولا كثير ، فأتت الجارية بالطعام ، فقال الربيع للقوم : كلوا ، فأكل القوم ، وكان الإمام الربيع صائما .
وأرسل بعد وفاة المليح إلى بناته من يقرئهنّ السلام ، ويعزّيهنّ عنه في أبيهنّ ، ويقول لهنّ : " إن المليح كان عندنا ممن يدين بالوصية ، ويراها حقّا عليه واجبا ، وإنه قد مات وعليه الأمر ولم يوصِ " ، وأمرهنّ بإخراج كذا وكذا من الدنانير عنه في قراباته وكفارات أيمانه .
وقد كان الإمام الربيع حريصا على تبصير الناس بأمور دينهم ، وإقناعهم بالصواب ، ودفع الشكّ والالتباس الذي قد يعتريهم ؛ خصوصا في أمور العقيدة والتوحيد .
جاء إليه وإلى وائل بن أيوب رجل من الصفرية يريد التوبة ، فقالا له : نبيّن لك الإسلام ، ولكن لا تكون لك عندنا ولاية حتى تأتي إلى قومك الذين دعوتهم ؛ لأنك كنت داعيا تدعو الناس ، فتبيّن أني كنت أدعوكم إلى غير الحقّ ، وأني قد تبت من ذلك ، وقد رجعت ، فاعلموا يا قوم .. فذهب الرجل فأخبرهم ، ثم رجع إليهم بعد ذلك ، فعرضوا عليه الإسلام .

* * *

لقد كان الإمام الربيع مضرب المثل في العلم والتقوى والأمانة ، حتى قالوا : لا يقبل القرآن من أيّ شخص حتى يكون مثل الربيع .. نعم في تقوى الربيع وورعه ، وخشيته وخوفه ، وعلمه وفقهه .
وقد اجتمع يوما وائل بن أيوب والمعتمر بن عمارة وجماعة إلى الربيع ، فسألوه أن يخرج إلى الموسم ..
قال الربيع : لا أقدر ، وما عندي ما أتحمّل به .
نعم .. زعيم المسلمين وقائدهم وليس عنده مال .. فلينظر أرباب الأموال الذين يضيّعون فرائض الله الواجبة ! .. وليست النافلة !!
فمشوا إلى رجل من المسلمين يقال له النظر بن ميمون ، وكان رجلا موسرا من تجار المسلمين ، فأعلموه بقول الربيع ، فأتاه النظر بأربعين دينارا ، وقال : حجّ بها ، فلم يقبلها منه ، وكان به خاصا .
فجاءه وائل والمعتمر ، فقالا له : سبحان الله يا أبا عمرو ، تعلم حاجة الناس إليك ، وكنت اعتللت بأنك لا تجد ما تحمل عليه ، فلما جاءك الله بما تتمتع به أبيت أن تقبل !!
قال الربيع : إنه قال لي خذها على أنك تحجّ بها ، ولست أقبلها على شرط .
فأتوا إلى النظر ، فأعلموه بما كره من قوله ، فاعتذر وقال : والله ما علمت أنه يكره ذلك ، والآن فخذوها أنتم ، فادفعوها إليه .
فأبى الإمام الربيع أن يقبلها بعد ذلك .

* * *

بعد رحلة طويلة من الجهاد في نشر العلم والهداية بين العالمين ؛ يشتاق العبد إلى لقاء ربه ، فيحبّ الله لقاءه ، فيقبض روحه بين أهله وذويه في غضفان من موطنه الأصلي عمان .
وحزن عليه المسلمون حزنا عظيما ، وبكاه تلاميذه من بعده ، وصلى عليه صلاة الغائب في إزكي تلميذه الكبير وشيخ المسلمين في عمان موسى بن أبي جابر .
وسيظلّ المسلمون يذكرونه إلى يوم الدين كلما نظروا في مسنده المشهور ،الذي يعدّ أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم ، قال أبو عمرو الربيع بن حبيب : حدثنا أبو عبيدة .. وعندما يطالعون كتب الأثر ، قال الربيع ، وهذا رأي الربيع ..
رحم الله الإمام الربيع ، فقد كان أحد أعاجيب هذه الدنيا .
ما قصرت.......
 

أدوات الموضوع البحث في الموضوع
البحث في الموضوع:

بحث متقدم
أنماط العرض

قواعد المشاركة
ليس بإمكانك إضافة مواضيع جديدة
ليس بإمكانك إضافة ردود
ليس بإمكانك رفع مرفقات
ليس بإمكانك تحرير مشاركاتك

رموز لغة HTML لا تعمل

الانتقال إلى



جميع الأوقات بتوقيت مسقط. الساعة الآن 09:49 AM.

سبلة عمان :: السنة ، اليوم
لا تمثل المواضيع المطروحة في سبلة عُمان رأيها، إنما تحمل وجهة نظر كاتبها