|
||
#1
|
|||
|
|||
صاحب أصح كتاب بعد كتاب الله تعالى .. هل عرفته ؟
الربيع بن حبيب
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــ نحن الآن في البصرة ، مدينة العلم والعلماء ، على عهد الجبار الطاغية الحجاج بن يوسف الثقفي .. يحين وقت الصلاة يقول الإمام جابر بن زيد : الرواح إلى الجمعة يسأله حبيب بن عمرو : أخلف الحجاج ؟! فيقول الإمام جابر : نعم ، إنها صلاة جامعة ، وسنة متبعة . وهكذا ظلّ حبيب بن عمرو مع الإمام جابر بن زيد مدة من الزمن ، ينهل من علمه ، ويروي من معينه ، ثم يعود إلى موطنه الأصلي عمان . * * * وفي أحد الأيام يرزق حبيب بمولود ذكر ، ويستقبل الوجود فردا جديدا ، ولم يكن يعلم حينها حبيب الخير والفضل الذي سيناله ابنه الذي سمّاه الربيع ، ولم يكن يعلم حينها أن اسمه ستمتلأ به أفواه العلماء والمحدثين .. وهكذا تمرّ الأيام والسنون ، وحبيب يرى ابنه الربيع يزداد يفاعا وذكاء ، وكلّ يوم يلمح فيه مخائل النجابة والفطنة ، فقرّر أن يرسله إلى البصرة .. نعم البصرة ، التي كان هو فيها يوما ما ، ولئن فاته منها الخير الكثير ، فلعلّ حلمه وأمانيه تتحقّق في ابنه الذي يعزّه ويحبّه . وهكذا تجشّم الربيع مشاقّ السفر ومصاعب الطريق من عمان إلى البصرة ؛ طلبا للعلم وتحقيقا لرغبة والده .. وشاء الله أن يصل الربيع إلى البصرة سالما ، وهنالك أخذ يسأل عن الإمام جابر بن زيد الذي أخذ عنه أبوه من قبل ، فدلّوه عليه ، فلازمه وصحبه ، يسمع منه حديث الرسول ، ويروي غليله من العلم .. ولكن لم تطل ملازمة الربيع للإمام جابر ؛ إذ شاءت إرادة الله أن ينتقل الإمام جابر بعد فترة ليست بالطويلة من وصول الإمام الربيع . وقد حزن الربيع على فراق شيخه حزنا عظيما ، ولئن فاته الإمام جابر ففي من بقي خير كثير ، فهناك الإمام أبو عبيدة مسلم الذي قيل عنه : إنه أدرك من الصحابة من أدركه جابر ، وقد تولى إمامة المسلمين بعد الإمام جابر بن زيد ، وهنالك ضمام بن السائب ، الذي يعدّ راوية جابر ، أغلب فتاواه قال جابر ، وسمعت جابرا ، وسألت جابرا .. وهنالك أبو نوح صالح الدّهان .. فأخذ عنهم ، وتعلّم على يديهم ؛ كما حدّث عن نفسه قائلا : " إنما حفظت الفقه عن ثلاثة : أبي عبيدة وضمام وأبي نوح " . * * * كان الإمام الربيع عالما فقيها ، ومحدّثا أمينا ، قال عنه شيخه الإمام أبو عبيدة : " فقيهنا وإمامنا وتقيّنا " . وناهيك من الشاهد ! إنه إمام المسلمين في وقته ، ومرجعهم في المسألة والفتوى ، الذي توثّق أقواله وتدوّن . وليست الشهادة كأيّ شهادة ! إنها شهادة بالفقه ، والرسول يقول : من يرد الله به خيرا يفقه في الدين » ، والعلماء ورثة الأنبياء . وليس هذا فحسب ؛ بل إنها شهادة بالتقوى أيضا ، التي تعتبر ميزان الإيمان ومقياسه ، قال تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم . ومع الشهادة بالتقوى والفقه نجد الشهادة بالإمامة .. نعم إنها الإمامة في الدين ، التي تستلزم التقوى والفقه والأمانة والقيادة والريادة والخبرة والحكمة .. ولما أصاب أبا عبيدة الفالج ، وحضر خروج الناس إلى موسم الحج ؛ مضى حاجب إلى أبي عبيدة وعبدالله بن عبدالعزيز ليبعثه إلى الموسم ، فأبى أبو عبيدة وقال : لا أفعـــل . فقيل له : فالمثنى بن معروف . قال : نعم . فبعث إلى المثنى في ذلك ، فقال المثنى : ما كنت لأفعل ، أخرج مع الربيع ؟! والربيع حاله في فضله وسنه ومعرفته على ما تعلمون ! فما أشير عليكم أن تبعثوا غلاما حدثا مثلي مع الربيع ، فيقال : لن نجد من نبعث إلى الموسم إلا هذا الغلام ، وفي الربيع كفاية عمن سواه . فبلغ قوله أبا عبيدة ، فازداد في نفسه له محبة ، وازداد عندهم بذلك رضى ، وقال أبو عبيدة : صدق المثنى ، فتوجه الربيع للناس يومئذ . والإمام الربيع ــ رحمه الله ــ ما كان يبخل بعلمه على غيره قطّ ، بل كان يؤدي حقّ الله فيه .. ذكروا أن رجلا في الطواف ينادي : يا معشر الفقهاء ، ما تقولون في رجل عليه دم ، ولا يمكنه دم ؟ فقال له الربيع : إليّ يا صاحب المسألة ، فجاء إليه ، فأجابه عن مسألته . ولقد تتلمذ على الربيع الجمّ الغفير ، الذين انتشروا في شتى بقاع الدولة الإسلامية المترامية الأطراف في ذلك الوقت ، فهنالك تلاميذه من عمان واليمن والحجاز ، وخراسان والعراق .. ولئن نال الرجال حظهم من علم الربيع ، فلم يكن حظّ النساء منه ممنوعا ، فقد كنّ حريصات على سؤاله والاستفادة منه. * * * بعد وفاة الإمام أبي عبيدة ــ رحمه الله ــ تولّى الإمام الربيع زعامة المسلمين لمدة ثلاثين سنة تقريبا ، فكان القياديّ الحكيم ، والربّان الماهر ، وتحقّقت فيه نبؤوة شيخه أبي عبيدة . اتبع الإمام الربيع تنظيما محكما في سياسته ، فكان يحلّ نزاعات المسلمين ومشكلاتهم ، ويتخذ تدابير حازمة ضدّ الشانئين المنشقّين ، فكان يأمر بعدم عيادتهم ومخالطتهم ، وينهى عن الجلوس معهم وتشييع جنائزهم ، وقد يسلك معهم مسلك المرونة إذا رأى منهم السكوت رغبة في رجوعهم وإذعانهم . قدم عليه ذات يوم أبرهة بن عطية الذي خالف المسلمين في أمر القدر ، فنزل في جواره ، فكان يدخل ويسلّم عليه .. قال أبرهة : يا أبا عمرو ، رجل من إخوانك ! فقال الربيع : من أيّ البلاد أنت ؟ قال : من أهل الشام . فلم يفتش الربيع ، فكان أبرهة يختلف إليه ، ويسأله عن الفقه ، ولا يحرّك شيئا من أمر القدر ، فلبث بذلك أياما حتى دخل على الربيع بعض المسافرين ، فقال له الربيع : سلّم على أخينا هذا ، فسلّم عليه ، ثم قال : ممن أنت يا فتى ؟ قال أبرهة : من أهل الشام . قال : ما بالشام أحد من أهل هذه الدعوة ، فمن أيّ الشام أنت ؟ قال أبرهة : من أهل الجزيرة . قال : لعلك ابن عطية . قال أبرهة : نعم قال : يا أبا عمرو ، هذا ابن عطية الذي أهلك أهل نجران هو وأبوه من قبله ، فلا يدخلن عليك ، ولا تنعمه علينا . قال الربيع : أسرعت على الرجل . قال أبرهة : يا أبا عمرو ، ما سألتك قطّ عن أمر تنكره ، إنما أريد أن أسألك عما يحتاج إليه الناس من الفقه من الحلال والحرام . فخرج الرجل ، وأتى وائلا والمعتمر وعبدالملك وجماعة ، فأعلمهم بحال الرجل ، فمشوا إلى الربيع مغضبين ، فدخلوا عليه ، فقالوا : أنزلت ابن عطية وقرّبته . قال الربيع : لا يجمل بمثلي أن أردّ من يأتيني ، مع أن الرجل لم يسألني عن شيء أكرهه ، ولم أكن علمت به . قالوا : فلا يدخل عليك ، لا تفته في مسألة واحدة . فلما غلبوا عليه حمل نفسه على رده ، فأتاه أبرهة كما كان يأتيه ، فلم يأذن له ، فبكى وقال : ما كنت أظن الربيع في فضله وورعه وحاله يرد مثلي ، وإنما أسأله عما ينتفع به الناس من أمر دينهم ، فارتحل إلى مكان آخر . ومع هذه الشدّة والصرامة مع المنشقين عن صفّ المسلمين ؛ نجده رحيما بإخوانه ، حريصا على رعاية شؤونهم ، يقضي حاجاتهم ويكفل أيتامهم . ذهب ذات يوم لزيارة المليح بن حسّان ، فدخل عليه والمليح مريض ، فقال الربيع لجارية المليح : يا قرشية ، هاتي الطعام ، فتهلّل وجه المليح حتى قام فقعد كأن ما كان به من المرض قليل ولا كثير ، فأتت الجارية بالطعام ، فقال الربيع للقوم : كلوا ، فأكل القوم ، وكان الإمام الربيع صائما . وأرسل بعد وفاة المليح إلى بناته من يقرئهنّ السلام ، ويعزّيهنّ عنه في أبيهنّ ، ويقول لهنّ : " إن المليح كان عندنا ممن يدين بالوصية ، ويراها حقّا عليه واجبا ، وإنه قد مات وعليه الأمر ولم يوصِ " ، وأمرهنّ بإخراج كذا وكذا من الدنانير عنه في قراباته وكفارات أيمانه . وقد كان الإمام الربيع حريصا على تبصير الناس بأمور دينهم ، وإقناعهم بالصواب ، ودفع الشكّ والالتباس الذي قد يعتريهم ؛ خصوصا في أمور العقيدة والتوحيد . جاء إليه وإلى وائل بن أيوب رجل من الصفرية يريد التوبة ، فقالا له : نبيّن لك الإسلام ، ولكن لا تكون لك عندنا ولاية حتى تأتي إلى قومك الذين دعوتهم ؛ لأنك كنت داعيا تدعو الناس ، فتبيّن أني كنت أدعوكم إلى غير الحقّ ، وأني قد تبت من ذلك ، وقد رجعت ، فاعلموا يا قوم .. فذهب الرجل فأخبرهم ، ثم رجع إليهم بعد ذلك ، فعرضوا عليه الإسلام . * * * لقد كان الإمام الربيع مضرب المثل في العلم والتقوى والأمانة ، حتى قالوا : لا يقبل القرآن من أيّ شخص حتى يكون مثل الربيع .. نعم في تقوى الربيع وورعه ، وخشيته وخوفه ، وعلمه وفقهه . وقد اجتمع يوما وائل بن أيوب والمعتمر بن عمارة وجماعة إلى الربيع ، فسألوه أن يخرج إلى الموسم .. قال الربيع : لا أقدر ، وما عندي ما أتحمّل به . نعم .. زعيم المسلمين وقائدهم وليس عنده مال .. فلينظر أرباب الأموال الذين يضيّعون فرائض الله الواجبة ! .. وليست النافلة !! فمشوا إلى رجل من المسلمين يقال له النظر بن ميمون ، وكان رجلا موسرا من تجار المسلمين ، فأعلموه بقول الربيع ، فأتاه النظر بأربعين دينارا ، وقال : حجّ بها ، فلم يقبلها منه ، وكان به خاصا . فجاءه وائل والمعتمر ، فقالا له : سبحان الله يا أبا عمرو ، تعلم حاجة الناس إليك ، وكنت اعتللت بأنك لا تجد ما تحمل عليه ، فلما جاءك الله بما تتمتع به أبيت أن تقبل !! قال الربيع : إنه قال لي خذها على أنك تحجّ بها ، ولست أقبلها على شرط . فأتوا إلى النظر ، فأعلموه بما كره من قوله ، فاعتذر وقال : والله ما علمت أنه يكره ذلك ، والآن فخذوها أنتم ، فادفعوها إليه . فأبى الإمام الربيع أن يقبلها بعد ذلك . * * * بعد رحلة طويلة من الجهاد في نشر العلم والهداية بين العالمين ؛ يشتاق العبد إلى لقاء ربه ، فيحبّ الله لقاءه ، فيقبض روحه بين أهله وذويه في غضفان من موطنه الأصلي عمان . وحزن عليه المسلمون حزنا عظيما ، وبكاه تلاميذه من بعده ، وصلى عليه صلاة الغائب في إزكي تلميذه الكبير وشيخ المسلمين في عمان موسى بن أبي جابر . وسيظلّ المسلمون يذكرونه إلى يوم الدين كلما نظروا في مسنده المشهور ،الذي يعدّ أصحّ كتاب بعد القرآن الكريم ، قال أبو عمرو الربيع بن حبيب : حدثنا أبو عبيدة .. وعندما يطالعون كتب الأثر ، قال الربيع ، وهذا رأي الربيع .. رحم الله الإمام الربيع ، فقد كان أحد أعاجيب هذه الدنيا . |
#2
|
||||
|
||||
جزاك ربي الجنة
__________________
اقتباس:
|
#3
|
|||
|
|||
أحسنت وأجملت
|
#4
|
||||
|
||||
اقتباس:
|
أدوات الموضوع | البحث في الموضوع |
أنماط العرض | |
|
|