تكملة...
ويعطي الكاتب مثالاً صارخًا بمعلومة شائعة تم الترويج لها حتى باتت بديهية لدى كثير من المتحدثين العرب أنفسهم عن التنمية, وهي مقارنة الناتج القومي الإجمالي للدول العربية مجتمعة, بالناتج القومي الإجمالي لإسبانيا, والقول بإن مجموع الناتج القومي لاثنتين وعشرين دولة عربية هو أقل من الناتج القومي الإجمالي لدولة واحدة هي إسبانيا, وهنا يرى جلال أمين أن ذلك المثال لا ينطوي إلا على محاولة إذلال وإهانة للعرب (وتقديم سلاح جديد ليستخدمه أعداؤهم للإمعان في إهانتهم وإذلالهم, وهذا هو ما حدث بالفعل, إذ لم يفت أي شخص من المهتمين بالتشهير بالعرب في الغرب - وفي بلادنا على السواء- استخدام هذه المقارنة. وكان اختيار إسبانيا بالذات, لأنها دولة لا تقترن في الذهن بالتقدم الاقتصادي الباهر, ومن ثم فتفوقها على الدول العربية مجتمعة, لابد أن ينطوي على إذلال أكبر للعرب). وفي لمحة ذكية ومضادة لهذا المثال يقول جلال أمين: (ولكن هذا الانطباع المهين ينطوي أيضًا على قدر كبير من التضليل, فكثرة عدد الدول العربية يستخدم هنا للإيحاء بالعجز بالرغم من الكثرة, مع أن سبعًا من هذه الدول العربية يقل عدد سكانها مجتمعة عن نصف عدد سكان إسبانيا, فضلا عن مدى توافر مصادر الدخل والغنى , وزيادة الناتج القومي الإسباني على الناتج القومي للعرب تستخدم للإيحاء بالقوة والبأس من ناحية إسبانيا, والفشل والضعف من ناحية العرب, مع أن زيادة طفيفة في سعر النفط, يمكن أن تجعل هذه المقارنة لمصلحة العرب! والعبارة توحي على أي حال بأن هناك شيئًا شاذًا في العرب جعل دولة واحدة كإسبانيا تتفوق عليهم جميعًا, مع أن المقولة نفسها تنطبق أيضًا, وبدرجة أشد درامية, على دولة كالهند, إذ إن الناتج القومي لإسبانيا, التي لا يزيد عدد سكانها على أربعين مليونًا يزيد على الناتج القومي للهند التي يبلغ عدد سكانها خمسا وعشرين مرة قدر سكان إسبانيا. ولكن من حسن حظ الهند أن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي ليس مشغولاً في هذه الأيام بالتشهير بالهند! بل يفضل التركيز على العرب).
حقوق الإنسان, وإبعاد الروح
بتمهيد مقنع ينتقل تمرد الكاتب إلى مفهوم شائع وافد أيضًا هو (حقوق الإنسان), ويقول: لابد أن نتوقع أن تختلف المجتمعات الإنسانية والثقافات الإنسانية فيما بينها اختلافًا شاسعًا, حول ما نعتبره وما لا نعتبره من (حقوق الإنسان). نعم من السهل أن نتفق جميعًا على ما يعتبر حاجات إنسانية وما لا يعتبر كذلك, ولكن لا يمكن أن نتوقع أن تعترف كل المجتمعات, على مر العصور, ومع اختلاف ظروفها الجغرافية والتاريخية والاقتصادية, ومع اختلاف درجة نموها الاقتصادي وتطورها الاجتماعي والخلقي, ومع اختلاف ما تدين به من أديان ومذاهب وعقائد, بالحقوق نفسها لأفرادها, وأن تشترك فيما تعتبره من حقوق الإنسان وما لا تعتبره كذلك.
وفي مثال تطبيقي على ما سلف, فإن الأسرة العربية تعتبر أنه من حقوق الابن أو البنت أن توفر لهما الأسرة ضرورات الحياة حتى يتم الابن تعليمه والبنت تتزوج وتنتقل إلى بيت الزوجية, وتعتبر هذا الحق من قبيل المسلمات, أي من قبيل (حقوق الإنسان) التي يكتسبها المرء بحكم صغر سنه, بينما قد تجد الأسرة الأمريكية أو البريطانية أن قيام الأب والأم بالإنفاق على الابن والبنت بعد سن مبكرة نسبيًا من قبيل التفضل والمبالغة في الكرم مادام الابن أو البنت قد أصبحا قادرين على كسب الدخل بطريق أو بآخر حتى قبل إتمام الولد لتعليمه, أو انتقال البنت إلى بيت الزوجية, والأسرة العربية - ومثلها الإفريقية والآسيوية - قد تعتبر أن لكبار السن حقوقًا تشمل استمرار إقامتهم مع ذويهم, مهما زادت أعباء خدمتهم, ولكن لا تعتبر الأسرة الأمريكية أو الأوربية ذلك من قبيل (حقوق الإنسان).
وللأسباب السالفة يرى جلال أمين أن (شعار) الدفاع عن حقوق الإنسان الذي يتردد الآن بكثرة, كثيرًا ما يكون بمنزلة قولة حق يراد بها باطل, والمؤكد أن استخدامه في هذه الأيام كثيرًا ما يكون قائمًا على خطأ كبير, حتى إذا افترضنا حسن النية, فمفهوم حقوق الإنسان لابد أن يختلف من ثقافة إلى أخرى, ولا يجوز أن يكون الشرطي المسئول عن حماية احترام حقوق الإنسان هو من أصحاب ثقافة بعينها دون غيرها, وإلا كيف نفهم تطبيق شعار حقوق الإنسان في أوربا وأمريكا, وتطبيقه في إفريقيا وآسيا من قبل شرطي الثقافة التي تحاول الهيمنة على غيرها?
الروح والأخلاق
وفي مضمار كشف نقائص مفهومي التقدم والتخلف الوافدين, ينتقل الكاتب إلى نقطة افتراق مركزية تدور حول قضية الدين والأخلاق, فيقول: إن الظن بأن (تحرير) الأخلاق من الولاء لدين معين أو ثقافة بعينها ينطوي على خطوة (أرقى) أو أكثر سموًا, فأعتقد أنه يتضمن خطأ كبيرًا. وقديمًا قيل إن (المفتاح المزيف يفتح جميع الأبواب), وهذا القول يمكن أن ينطبق على موضوعنا الآن, بمعنى أن الزعم بأن شخصًا ما ينتمي إلى الإنسانية جمعاء دون أن يشعر بالولاء لأي ثقافة أو دين أو ملة بعينها, قد لا يعني أكثر من أنه شخص لا يحمل أي انتماء أو ولاء من أي نوع ولأي شيء.
علاج التعصب ليس بإضعاف الولاء, بل بإشاعة روح التعقّل والحكمة في حمل هذا الولاء وفي التعبير عنه, بحيث لا يتحول الولاء إلى كراهية للغير, وتقوية الحس الأخلاقي تكون بترسيخ ولاء المرء لدينه وثقافته دون اعتداء على حق أصحاب أي دين آخر أو ثقافة أخرى, وحقهم في التعبير عن ولائهم لدينهم وثقافاتهم. وليس هذا بالمطلب المستحيل أو العسير, وقد عرفنا في أكثر من مكان في عالمنا العربي مثل هذا المناخ من الولاء للعقيدة والثقافة والوطن المصحوب بالتعقل والتسامح, قبل أن تنتشر الموجة الحالية من التعصب البعيد عن التسامح, التي لا نرضاها لنا ولا لغيرنا, لكننا في الوقت نفسه لا نبرئ بعض أسبابها من القهر المستمر الذي يمارسه الآخرون, في بعض الدوائر الغربية, بل في أغلبها, والمتمثل في الظلم الواضح والفادح بالتحيز للجانب الإسرائيلي ضد الفلسطينيين الذين تغتصب أبسط حقوقهم الإنسانية يوميًا, وعلى مسمع ومرأى من العالم (المتقدم)! وليس القهر المادي باغتصاب الحقوق والأرض هو الوجه الوحيد للقهر الوافد, فقهر المفاهيم التي لا تراعي خصوصية ثقافية وروحية هو وجه آخر من وجوه القهر.
إن (خرافة التقدم والتأخر) محاولة نقد شجاعة لمفكر عربي يكفيه شرف المحاولة, وهي محاولة ووجهة نظر تستحق كثيرًا المتابعة والنقد ووضعها على طاولة الحوار الثقافي العربي لمزيد من التبلور, ولمراجعة الكثير من المسلمات والأفكار التي تبنيناها وبدأ الزمن يتخطاها.
ا لدكتور سليمان العسكري: رئيس تحرير مجلة العربي وأستاذ بجامعة الكويت سابقا
الدكتور جلال أمين: عالم إقتصاد ومفكر وكاتب أكاديمي مصري. يعمل أستاذا للإقتصاد بالجامعة الأمريكيه بالقاهرة
كتاب "خرافة التقدم والتأخر" يصدر من دار الشروق - مصر. يمكن الحصول على نسخة من الكتاب من معرض مسقط الدولي للكتاب في دورته القادمة إن شاء الله.
خالص مودتي
__________________
"... إن بعد الليل فجر يرتسم..."
|