عرض المشاركة وحيدة
  #6  
قديم 07/05/2008, 05:40 PM
سليل ظفار سليل ظفار غير متصل حالياً
عضو مميز
 
تاريخ الانضمام: 09/06/2007
الإقامة: ظفار الشموخ
الجنس: ذكر
المشاركات: 1,209
افتراضي



كان قد بني سور طويل سمكه حوالي مترين لحماية البيت من أمواج البحر, نما خلفه وترعرع أجمل الرمان. وأمام السور ربط في فترات الجزر عدد من أفضل الخيول إلى حبال طويلة لتستطيع أن تمرح وتتقلب على رماله كما يحلو لها. كان أبي يحب خيوله العربية الأصيلة من عمان حبا شديدا, وكان يريد كل يوم رؤيتها, وإذا مرض أحدها قام بنفسه برعايته في الحظيرة. وأذكر هنا مثالا على حنو العربي على خيوله المفضلة, كان لأخي ماجد فرس بنية ثمينة ولم يكن أحب إليه من أن تلد فلوا. حين حان الوقت واقترب موعد ولادة الكحلة( كان هذا اسم الفرس) أمر السائس أن يبلغه بالولادة في الحال سواء في النهار أو في الليل. وبالفعل أوقظنا جميعا ذات ليلة بين الواحدة والثالثة تقريبا لنبلغ بهذا الحدث السعيد. حصل السائس الذي جاء بالنبأ السار من سيده السعيد خمسين دولارا كمكافأة له. وليس هذا مثلا فريدا, إذ يقال أن التعلق الشخصي بالخيول داخل بلاد العرب أكبر من هذا بكثير.

حين انتهت ساعة الصلاة وعاد أبي إلى غرفته, ذهبنا إليه ثلاثتنا, أنا وأمي وخدوج, وكما هو دائما ميال إلى المزاح, التفت إلي بعد قليل قائلا: قولي لي يا سالمة, كيف وجدت المكان هنا? هل تريدين العودة إلى بيت المتوني? هل تحصلين هنا أيضا على حساء الحليب?

بين التاسعة والنصف والعاشرة أتى جميع أخوتي من بيوتهم لتناول الإفطار مع أبي. لم يكن مسموحا لأية سرية أن تتناول طعامها مع أبي مهما بلغ تفضيله لها على الأخريات. فما عدانا نحن أطفاله, وبالمناسبة بعد بلوغنا سن السابعة فقط, شاركته المائدة زوجته المصون عزة وأخته عائشة. لا يظهر التمييز الاجتماعي بين الناس في الشرق في أية مناسبة بمثل الحدة التي يظهر فيها لدى تناول الطعام. فالمرء ودود ومحب لضيوفه تماما مثلما هي الحال لدى السادة الوجهاء هنا في هذه البلاد, وكثيرا ما يكون حتى أكثر تواضعا, ولكن عند الطعام يفصل المرء نفسه عنهم بكل أدب. هذا تقليد عميق الجذور حتى أن أحدا لا يشعر بالإهانة الشخصية من جراء هذا الفصل.

وقد وضعت السراري بينهن تراتبية أخرى. الشركسيات الجميلات الثمينات اللائي يعين قيمتهن لا يردن أن يتناولن الطعام مع الحبشيات اللائي لهن لون القهوة. وهكذا كانت كل مجموعة عنصرية تتناول طعامها على حدة وفق اتفاق غير معلن. إلا أن لون البشرة لم يلعب بالنسبة للأطفال كما أشرت دورا في التمييز بالطبع.

لدى ترددي على بيت الساحل تشكل لدي انطباع بأن الناس هنا أكثر مرحا وسعادة منهم في بيت المتوني. استطعت أن أدرك في وقت لاحق فقط سبب ذلك. كانت لعزة بنت سيف هناك الكلمة, لقد حكمت الزوج والأطفال وأمهاتهم, باختصار كل ما كان حولها. وعلى العكس هنا في بيت الساحل حيث لا تظهر عزة إلا نادرا, شعر الكل بما فيهم أبي بأنهم أحرار غير مقيدين, يستطيعون أن يفعلوا ما يريدون. وفيما عدا أبي الذي كان طيبا ورفيقا بشكل لا يوصف, لم يكن ثمة من يصدر الأوامر. الشعور بالحرية وعدم التحفظ يبعث الحيوية والسعادة بين الناس في كل مكان سواء عاشوا في شمال الكرة الأرضية أم في جنوبها. لابد أن يكون أبي أيضا قد شعر بهذا, فهو لم يرسل منذ سنوات أحدا للإقامة الدائمة في بيت المتوني إن لم تكن تلك رغبته الشخصية, رغم وجود مساكن كثيرة خالية في هذا البيت, بينما يكتظ بيت الساحل بالسكان. إلا أن هذا الاكتظاظ أصبح في الأخير لا يطاق, حتى خطرت لأبي فكرة فذة وهي أن يقيم في الشرفة الكبيرة حجرات خشبية كغرف إضافية للسكن. وأخيرا كان عليه أن يبني بيتا ثالثا, سمي ببيت الرأس. أقيم هذا على بعد بضعة كيلومترات إلى شمال بيت المتوني على البحر أيضا من أجل أن يكون مسكن الجيل الجديد من بيت الساحل.

كان يمكن للرسام أن يجد في شرفتنا في بيت الساحل مادة وفيرة لريشته. كانت الصور في كل الأوقات شديدة التنوع وملونة. وجوه الحشد تتدرج من ثماني درجات لونية إلى عشر. وسيكون على الفنان أن يستخدم ألوانا صارخة ليستطيع أن يعكس صورة حقيقية لكل الثياب الملونة. كان الضجيج على الشرفة مربكا أيضا. أطفال من مختلف الأعمار يركضون, يتخاصمون ويضرب بعضهم بعضا في كل الزوايا. وخلال ذلك يرتفع نداء بصوت عال وتصفيق باليد يقوم في الشرق مقام الجرس لنداء الخدم, يضاف إلى هذا قرقعة قباقيب النساء الخشبية التي ترتفع من خمسة إلى عشرة سنتيمترات وكثيرا ما تكون موشاة بالفضة والذهب.

كان خليط اللغات في هذا المجتمع ممتعا بالنسبة لنا نحن الأطفال. في الواقع كان ينبغي الكلام بالعربية وحدها, وفي حضور أبي جرى الالتزام بذلك بصرامة. ولكن ما كان يكاد يذهب حتى تسود فوضى لغوية هائلة, فكان المرء يسمع عدا العربية الفارسية والتركية والشركسية والسواحيلية والنوبية والحبشية مختلطة ببعضها, بغض النظر عن اللهجات المختلفة لهذه اللغات.

لم تزعج هذه الضوضاء في ذلك أي إنسان, كان يشتكي منها من كان مريضا فقط. وكان أبونا الطيب معتادا على ذلك ولم يظهر تذمره أبدا.

في هذا المكان المليء بالحركة بدت اليوم جميع أخواتي الراشدات في زينة احتفالية, قسم منهن لأن اليوم كان يوم أحد عربي, وقسم آخر على شرف زيارة أبي. ذهبت أمهاتنا ووقفن في مجموعات وتحدثن بحماسة مع بعضهن, ضحكن, وتندرن وكن من المرح حتى أن أحدا يجهل الظروف, لن يصدق أنه يرى زوجات رجل واحد. ومن منطقة السلم ارتفعت قرقعة السلاح لإخوتي الكثيرين وأبنائهم الذين جاءوا أيضا لزيارة أبي وبقوا عنده, باستثناء فسحات صغيرة من الوقت, طول النهار.

وهكذا ساد في بيت الساحل كثير من الفخامة والإنفاق أكثر مما هو في بيت المتوني, ووجدت هنا أيضا أشكالا أكثر جمالا وجرأة مما هناك حيث لا توجد شركسيات أخريات عدا أمي وصديقتها مدينة. بينما كانت هنا على العكس غالبية النساء من الشركسيات اللاتي كانت لهن طلعة أجمل دون شك من الحبشيات, رغم أنه كثيرا ما كانت بين الأخيرات نساء ذات جمال غير عادي. أعطت هذه المفاضلات الطبيعية سببا للحسد والحقد, فكانت الحبشيات ذوات لون الشكولاته يتجنبن كل شركسية تتمتع بالجمال دون ذنب تماما وحتى يكرهنها, فقط لأنها تبدو ذات وقار. في هذه الظروف لا يمكن تجنب نوع من »الكراهية العنصرية بين الأخوات أيضا. تتسم الحبشية رغم فضائلها من بعض النواحي بالكراهية والميل إلى الثأر دائما تقريبا. إذا توقدت عاطفتها فإنها نادرا ما تكون معتدلة, ناهيك عن أن تكون مستقيمة. كانت أخواتنا اللائي يجري في عروقهن دم حبشي يطلقن علينا نحن أطفال الشركسيات عادة »القطط, لأن بعضنا كان له لسوء الحظ عينان زرقاوان. وكن يلقبننا بـ»أصحاب السيادة سخرية, وهو دليل على عظم امتعاضهن من أننا ولدنا ببشرة بيضاء. ولم يغفرن لوالدي أبدا أن يكون قد اختار ابنتيه المفضلتين شريفة وخولة من أمهات شركسيات - من نسل القطط المكروهة.

مهما يكن فقد سادت في بيت المتوني تحت ضغط عزة بنت سيف حياة شبيهة بحياة الأديرة. كنت في بيت الواتورو أشعر بوحدة أكبر, لذلك أعجبتني أكثر الحركة النشيطة في بيت الساحل.

انضممت بعد وقت قصير إلى أخوتي الذين كانوا في نفس سني. وكانت ضمن الحلقة القريبة ابنتا أخ هما شيمبوا وفارشو, وهما الابنتان الوحيدتان لأخي خالد. كان يؤتى بهما كل صباح من بيتهما إلى بيت الساحل وتعادان إلى بيتهما في المساء, لتستطيعا أن تحضرا الدروس مع أعمامهما وأخوالهما ثم تنصرفا إلى اللعب بعد ذلك. كانت خورشيد أم خالد وهي شركسية الأصل ذات مظهر بهي بوجه خاص. فارعة الطول, تملك قوة إرادة غير معتادة يرافقها ذكاء طبيعي عال. لم أر في حياتي امرأة ثانية يمكن مقارنتها بها . قيل عنها حين أصبح خالد ينوب عن أبي فيما بعد عند غيابه, إنها هي التي تحكم البلاد وإن ابنها ليس سوى أداة في يدها. لم يكن يستغني عن مشورتها لدى العائلة بكاملها, وكان الكثير يتوقف على قرارها. كانت عيناها تراقبان وتريان في لحظة بنفس الحدة التي ترى بها مئات العيون لأرغوس. كانت تحافظ في القضايا المهمة دائما على ما يشبه حكمة سليمان. لكنها كانت بالنسبة لنا نحن الأطفال غير محبوبة وكنا نتجنب الاقتراب منها.

أردنا في المساء أن نعود إلى بيت الواتورو. هنا قال أبي لأمي ويا لعظم خيبتي, إن علي أن أتابع التعلم, يعني تعلم القراءة, وبذريعة أنهم لم يجدوا لي بعد معلمة مناسبة, تقرر أن يؤتى بي كل صباح مثل بنات أخي إلى بيت الساحل وأن أعاد في المساء, لأستطيع التعلم مع أخوتي. كان هذا الخبر بالنسبة لي غير مريح على الإطلاق. كنت أقل انضباطا من أن أكون قادرة على الجلوس هادئة, وعدا هذا فقد أفسدت معلمتي السابقة تذوقي للتعلم إفسادا جذريا. ولكن فكرة أن أكون مع أخوتي كل يوم ( عدا يوم الجمعة ) وحدها قدمت لي عزاء مؤقتا, خاصة أن أختي خولة الساحرة عرضت على أمي أن تقوم برعايتي والاهتمام بي. وقد فعلت هذا بإخلاص ورعتني مثل أم. كانت أمي على العكس متكدرة حول قرار أبي بإبعادي عنها ستة أيام في الأسبوع, وهو ما كان عليها أن تتدبره أيضا. إلا أنها أمرتني أن أكون في مكان معين عدة مرات في اليوم حيث تستطيع أن تراني من بيت الواتورو على الأقل وتومئ لي.

من حياتنا في بيت الواتورو وبيت الساحل

لا أريد أن أقول عن معلمتي الجديدة سوى أنني أحمد الله القدير أيضا على أنه هيأ لي في يفاعتي مثل هذه الصديقة المخلصة. كانت معلمة صارمة ولكن منصفة. كثيرا ما ذهبت إليها وحدي لأن أخوتي لم يكونوا يحبون الذهاب إلى غرفة مرضها المظلمة, ويفضلون استغلال عجزها ليتسللوا من المكان. لكني لم امتلك القسوة أن أرى المسكينة البائسة تطلب مني شيئا فلا ألبي رغبتها. وقد عادت علي طاعتي عدا رضاها طبعا بسخرية شديدة من أخوتي المتنصلين من الدرس وكثيرا ما كان علي أن أحتمل ضربهم أيضا.

ازداد حبي لبيت الساحل مع مرور الأيام, كنا نستطيع أن ننطلق في لعبنا هنا أكثر بكثير مما في بيت الواتورو. ولم يفتنا هنا أيضا أن نعبث, ولكن حين تبع ذلك عقاب كنت أقل من يتعرض له حيث كانت راعيتي خولة أكثر طيبة من أن تنزل بي عقابا.

وها هي بعض الأمثلة على معابثاتنا.

كانت ثمة طواويس رائعة في البيت بينها واحد عنيد, لم يكن يحبنا نحن الأطفال. ذات يوم حين مضينا, وكنا خمسة أطفال, حول قبة الحمام التركي الذي يرتبط ببيت الساحل بجسر معلق وبآخر مع بيت الثاني, وهو بيت ملحق بالأول, باغتنا ذلك الطاووس وهو ينفخ من الغيظ وهاجم أخي جمشيد. ألقينا بأنفسنا بسرعة البرق على الغول وغلبناه. ولكن غضبنا وخاصة جمشيد كان أكبر من أن نترك الحيوان, فقررنا أن نثأر منه بوحشية فنزعنا عنه ريشه الجميل. وكم بدا الحيوان الملون المحب للشجار بعد ذلك بائسا. لحسن الحظ كان أبي في ذلك الوقت في بيت المتوني وقد كتم عنه الأمر عند عودته لحسن الحظ.

خلال تلك الفترة جاءت إلينا شركسيتان من مصر, وبعد بعض الوقت بدت إحداهما لنا نحن الأطفال, متعالية لا تعيرنا اهتماما. وقد آلمنا هذا فبذلنا جهدنا من أجل أن نعثر على عقوبة مناسبة لها. ولم يكن إنزالها بها سهلا, فهي لا تمر في طريقنا أبدا ولم يكن لدينا ما نفعله معها. وقد زاد حقدنا عليها كونها لا تكبرنا إلا بسنوات قليلة. بمثل هذه المشاعر جئنا مرة ومضينا أمام غرفتها التي كان بابها مفتوحا كالمعتاد. كانت المسكينة تجلس على سرير سواحلي خفيف جدا, يتكون من أربعة قوائم مربوطة بحبال جوز الهند وحصيرة, وكانت تغني بكل استغراق أغنية مرحة من أغاني وطنها. كانت أختي شيوانة هي قائدتنا هذه المرة, وكانت نظرة منها تكفي لنفهم نحن الذين كنا نحمل نفس المشاعر. أمسكنا حبل السرير بصعوبة, ورفعناه معها قدر ما استطعنا لنتركه يسقط ثانية, مما أرعب المخلوقة التي لم تكن لديها أي فكرة. كان عبثا طفوليا حقا, إلا أنه حقق نجاحا, فقد شفيت من عدم اكتراثها بنا في المستقبل إلى الأبد, بعد ذلك كانت المودة بعينها ولم نكن نريد أكثر من ذلك.
__________________
************************

عندما يشتد الظلام تستطيع أن تُشاهد النجوم

************************