عرض المشاركة وحيدة
  #3  
قديم 14/01/2010, 02:49 PM
صورة عضوية OMNEng
OMNEng OMNEng غير متصل حالياً
عضو مميز
 
تاريخ الانضمام: 19/09/2009
الإقامة: بيتنا الكبير
الجنس: ذكر
المشاركات: 1,251
افتراضي

.
.


خرافة التقدم والتأخر في كتاب مصري

القاهرة: جمال القصاص

لكل تخلف خرافته وأساطيره، ولكل تقدم أيضا، حتى ليبدو التاريخ الإنساني وكأنه حلقة، أو حلقات متصلة منفصلة في سياق هذه الثنائية

التي تكتسب بمرور الوقت صفة الثبات أحيانا، وصفة التغير أحيانا أخرى

يدرس المفكر المصري الدكتور جلال أمين في كتابه خرافة التقدم والتأخر» الصادر حديثاً عن دار الشروق بالقاهرة، أوضاع العرب والحضارة الغربية في مستهل القرن العشرين، مستعرضا الأساطير والأفكار التي صاحبت مفهومي أو فكرتي التقدم والتخلف منذ اليونانيين القدماء، ومرورا بفكر العصور الوسطى في أوروبا، وحتى عقدي الخمسينات والستينيات من القرن الماضي. ويعرج كذلك في ظلال هذا المفهوم على صورة العالم بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 المفزعة في نيويورك وواشنطن، وبروز الإرهاب كقوة مناوئة، وشيوع ثورة المعلومات، وثقافة حقوق الإنسان.

وعلى ضوء ذلك، يفند المؤلف نظريات التنمية الاقتصادية حسبما روج لها كتاب ومنظرو الغرب منذ نهاية الحرب العالمية الأولى، ويكشف ما وراء أقنعتها وشعاراتها من تهميش للثقافة الوطنية وتركها بلا حماية في مواجهة تيارات جارفة من السلع والخدمات الأجنبية، وفي الوقت نفسه إضعاف قدرة الدول الفقيرة على إنتاج مثل هذه السلع بنفسها والاستغناء عن استيرادها، وكذلك اعتبار الثقافة الوطنية ـ في نظرهم ـ عائقا سلبيا معطلاً لهذه التنمية، فهي لا تشجع على تحقيق التوسيع للأسواق أمام بضائع الدول الأكثر تقدما، ومن ثم يجب تعديلها التعديل المناسب.

خصائص مقيتة

وينتقد المؤلف في هذا الإطار ما أسماه الخيانة» التي ارتكبت في حق الدول الفقيرة خلال عقدي الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، بوضعها جميعاً في سلة واحدة، واعتبارها شيئا واحدا دون تمييز بين أمة وأخرى، وبين ثقافة وغيرها، وتحت شعار مجموعة من الخصائص المقيتة ـ على حد قوله ـ سموها خصائص البلاد المتخلفة». وفي هذه الخصائص الصين مثل الهند، والعرب مثل الأفارقة، وشعوب أميركا اللاتينية والمسلمون والمسيحيون مثل الوثنيين. ويتساءل المؤلف هنا: ما هو معدل الاستثمار وكيفيته الذي تتطلبه ـ على سبيل المثال ـ روشتة روستو» أحد أبرز منظري الغرب للانتقال من مرحلة متخلفة إلى مرحلة أعلى. ويلاحظ المؤلف أن هذه الروشتة» بمراحلها الخمس لم تحتو على كلمة واحدة عن السمات الثقافية للأمة، وما يمكن أن يحدث لها نتيجة الانتقال من مرحلة إلى أخرى حسب هذه المراحل، في مقابل ذلك يؤكد أن الانتقال الحقيقي من مرحلة اقتصادية متخلفة إلى أخرى متقدمة يعني أيضا الانتقال من حالة ثقافية متدنية» إلى حالة ثقافية أرقى. ويرى المؤلف أن شعارات التنمية الاقتصادية الأبرز في سبعينيات القرن الماضي والتي انصبت حول التصحيح الهيكلي والخصخصة بغرض فتح الأبواب على مصراعيها أمام التجارة الدولية والاستثمارات الأجنبية، وكذلك شيوع الكلام عن دور المجتمع المدني، وحقوق الإنسان، كانت هذه الشعارات ترفع في مواجهة سلطان الدولة، بغرض تقليص دورها في حماية الاقتصاد القومي ومحدودي الدخل، لافتا إلى أن اضعاف دور الدولة على هذا النحو الكاسح والشامل كان لابد أن يعني ترك الثقافة الوطنية بلا حماية» بخاصة مع تعاظم دور الشركات الاستثمارية والقنوات الفضائية والتي أضافت ـ على حد قوله ـ تخريبا جديدا للثقافة على جانب ما أحدثته التنمية الاقتصادية أحادية الجانب في عقدي الخمسينيات والستينيات، ناهيك عن أن ثقافتنا ـ وكما يشير المؤلف أيضا ـ أصبحت لا توصف حالياً بالتأخر، أو التخلف، بل بالإرهاب»، وأصبح المطلوب ليس الارتقاء بهذه الثقافة، بحيث تتكيف مع متطلبات التنمية الاقتصادية، بل المطلوب الآن استئصال هذه الثقافة من جذورها، لأن هذه هي الطريقة المناسبة في التعامل مع الإرهاب، وحتى تظل ثقافة الغرب المتقدمة تقنياً واقتصادياً وعسكرياً هي النموذج الذي يجب أن يحتذى، تحت مظلة ما يقال عن صراع الحضارات أو الثقافات» والذي هو في جوهره بمثابة جسر لتبرير الاعتداء، وفرض إرادة وسطوة الأقوى وهيمنته في الوقت نفسه. وعلى ضوء ثنائية التقدم والتأخر يناقش المؤلف وتحت عنوان التنمية الإنسانية» منظومة القضايا الجديدة التي طفت على سطح العالم في ظل سياسات العولمة، وعلى وجه الخصوص قضايا الحرية والديمقراطية والمرأة، ويوجه الدكتور جلال أمين انتقادات لاذعة لمفهوم التنمية البشرية» الذي دشنه برنامج الإنماء للأمم المتحدةUNDP والمعايير التي تحكم آلية العمل في التقرير السنوي الذي يصدره عن أحوال التنمية البشرية وبخاصة في العالم العربي. ويخلص المؤلف من خلال قراءته لتقريرين صدرا في عامي 2002 و2003، ورصده لما يحتويانه من حقائق متضاربة، وأفكار ومفاهيم ومقارنات مغلوطة، إلى أن الحقيقة المخفية وراء مثل هذه التقارير هي التشهير بالعرب، وإبراز صورتهم وكأنها متعلقة بالماضي وحده. مشيراً إلى أن التقرير الأول والذي حمل عنوان التنمية العربية الإنسانية» وضع معيارا ادعى أنه الأكثر شمولا للتقدم الإنساني والتخلف، متجاهلا في الوقت نفسه، أن عبارة التنمية الإنسانية» أقرب لغويا ـ وبخاصة في العربية ـ إلى الجوانب النفسية والمعنوية في الإنسان، كما أن التقرير تجاهل الاستناد على مقاييس متوسط الدخل للأفراد في قياس التقدم الإنساني والتخلف، وارتكز على معايير فضفاضة عن الحرية أو الديمقراطية، والمعرفة، وتحرير المرأة.

ويتساءل المؤلف: هل تقاس الحرية بعدد مرات الذهاب إلى صناديق الانتخاب، أو عدد المسجونين بسبب آراء سياسية، بصرف النظر عن عدد المحرومين من تحقيق رغباتهم الطبيعية بسبب الفقر. ويرى أيضا أنه من الخطأ الظن بأن الأمم المتقدمة اقتصادياً وتكنولوجيا قد نجحت في تحرير المرأة من كل صور القهر، لافتاً إلى أن هذا التقدم نفسه قد يؤدي إلى استغلال المرأة اقتصادياً ونفسيا، إما خضوعاً لمنطق تعظيم الأرباح في الرأسمالية، أو لمنطق تسويق السلع في ظل المجتمع الاستهلاكي، أو لمنطق تشجيع الفردية والاستقلالية في ظل المجتمع التكنولوجي الحديث، كما حدث في بنيتها المجتمعية بين كل هذه المتناقضات، وعلى ذلك يدين المؤلف مفهوم التنمية البشرية» منطلق أن الرقي الإنساني هدف بسيط، وليس سلعة يمكن أن تقاس بالأرقام، أو الحجم، أو الوزن.

متاهة الأرقام

وفي التقرير الثاني لعام 2003 والذي اختص ببحث أحوال المعرفة» في العالم العربي يرى المؤلف أن محرريه ـ وهم عرب ـ أخفوا ـ أيضا ـ تحيزاتهم للنموذج الأميركي/ الغربي في التنمية وراء دخان كثيف من الأرقام لإظهار العرب بصورة باعثة على الرثاء أو الاحتكار، إذ تذكر الأرقام بمعزل عن ظروفها ومسبباتها، فلا تمييز بين فترة وأخرى، أو أداء دولة عربية عن أخرى، لا يوضح التقرير ما يمكن أن يفعله العرب في ظروف أفضل. كما تجاهل بشكل تام الكلام عن أي ضغط خارجي مارسته أية دولة أجنبية، أو مؤسسة دولية على العرب.

ويدلل المؤلف على ذلك بمقارنة التقرير البلاد العربية ـ مثلا ـ في مجال الترجمة بدولتين أوروبيتين ينتميان إلى أصل ثقافي وحضاري واحد هما: أسبانيا والمجر، ليعطي انطباعا مضللا ومهينا بالعجز برغم الكثرة. وفي مجال إجمالي الناتج القومي يقارن التقرير أيضاً العرب بأسبانيا، ولا يقارن الأخيرة ـ مثلا ـ بالهند الذي يفوق عدد سكانها أسبانيا 25 مرة، وبرغم ذلك يتفوق الناتج القومي لأسبانيا عليها، وليس على العرب وحدهم، مع أن ارتفاعا طفيفا في أسعار البترول ـ كما يرى المؤلف ـ يقلب المعادلة لصالح العرب.

وبنبرة سخرية يتساءل الدكتور جلال أمين عن ماهية الحرية أو الديمقراطية، وماهية تمكين المرأة، وكذلك حقوق الإنسان، التي يتشدق بها التقرير، ويدشنها على الطريقة الأميركية، وكأن ما حدث في سجن أبو غريب بالعراق لا يعكر صفو هذه الصورة، التي يفتقر إليها العرب، ويجب أن يقتدي بها العالم. ويؤكد المؤلف أنه إذا كانت الشفافية لم تراعي في معرفة حقيقة ما يحدث في هذا السجن حيث لم تتمكن أية صحيفة أو مراسل إذاعة، أو تلفزيون، أو هيئة من الهيئات المعنية بحقوق الإنسان من

دخول السجن على مدى أكثر من سبعة أشهر، ولقد عرفنا أن بعض ما حدث فيه بدأ في أكتوبر ونوفمبر عام 2003، فإن الصورة تصبح أكثر درامية حول تمكين المرأة» حين نعلم بعد ذلك من الصور المتداولة عن الوقائع الوحشية في السجن أن امرأتين على رأس المسؤولين الأميركيين عنه هما (جانيس كاربينسكي) برتبة جنرال، وامرأة أخرى لا يزيد سنها على 21 عاماً اسمها (ليندي إنجلاند). ويعلق المؤلف على صور التعذيب البشعة للمواطنين العراقيين الأبرياء في هذا السجن بتساؤل آخر أكثر مرارة وسخرية قائلاً: لا بد إذن أن حقوق الإنسان العراقي تختلف في نظر السياسة الأميركية عن حقوق الإنسان الأميركي، وعن حقوق الإنسان بصفة عامة، وعن حقوق الكلاب أيضا».

ويتابع الدكتور جلال أمين في بقية فصول الكتاب توضيح الجوانب المعتمة في ظلال هذه الصورة، فيتناول من جديد قضايا الحرية والرأسمالية، وحقوق الإنسان وثورة المعلومات، والأخلاق، والإرهاب، والحداثة والإصلاح، في سياق رؤية تستقصي الحقائق من ذاكرة الماضي والحاضر معا، مستعينا في ذلك بقراءاته الخاصة في مجالات الفلسفة والفكر والأدب والتاريخ.
__________________

"... إن بعد الليل فجر يرتسم..."