عرض المشاركة وحيدة
  #35  
قديم 12/08/2010, 04:25 PM
الجيل الواعد الجيل الواعد غير متصل حالياً
عضو نشيط
 
تاريخ الانضمام: 01/01/2010
الجنس: ذكر
المشاركات: 482
افتراضي




مناقشة ما سبق من الخلاف في مسائل الرفع:
تبين أن الخلاف في كل مسائل الرفع شاسع واسع، وكل قول يعتمد في - كثير من الأحيان - على رواية منسوبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
والشكوك في موضوع الرفع واردة من جهة كونه أمرا عمليا في الصلاة، يتكرر ليلا ونهارا، ولا يمكن أن يخفى عدده ومواضعه وكيفيته وكل ما يتعلق به، بيد أننا وجدنا أن المسألة مضطربة إلى أبعد الحدود.
ويفترض أن يكون نقل الرفع بنفس الأوصاف نقلا جماعيا متفقا عليه بين كل النقلة، والواقع أن شيئا من ذلك لم يكن.
بل على العكس نجد الروايات تناقض بعضها، ويمنع بعضها مايجيزه بعضها الآخر، وبناء عليه تتباين المواقف بين العلماء في أي من الروايات يأخذ الواحد منهم، وأي من الأقوال يتبنى.
وأما الموقف الذي يبيح العمل بأيها شاء المصلي مع ندرة من يتخذه من العلماء - كما يفعل الألباني من نحو قوله: وكان صلى الله عليه وسلم يرفع أحيانا في هذا الموضع " - فهو مجرد محاولة لحل لغز التناقض والاضطراب في القضية.والحديث عن ذلك أحصره في الأمور الأربعة التالية:
الأمر الأول: البون الشاسع بين الأقوال، وثمة فارق كبير بين القول بالرفع مرة واحدة في الصلاة، وبين القول بالرفع ستًا وعشرين مرة في الصلاة، وبيان ذلك من خلال استرجاع الأقوال في مواضع الرفع:
1- عند الافتتاح فقط
2- عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع منه
3- عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع منه وعند القيام من التشهد الأول في الصلاة الثلاثية والرباعية
4- عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع منه وعند السجود وعند الرفع منه
5- عند الافتتاح وعند كل خفض ورفع
6- عند الافتتاح وعند الركوع وعند الرفع منه، والتخيير في الرفع عند السجود وعند الرفع منه، وعند القيام من التشهد الأول، وهذا مذهب الألباني.
أخي القارئ الكريم، تابع معي بإمعان ما يلي:
- وبناء على القول الأول فالرفع مرة واحدة في الصلاة الواحدة.
- وبناء على القول الثاني فالرفع في الصلاة الثنائية خمس مرات، وفي الثلاثية سبع مرات، وفي الرباعية تسع مرات.
- وبناء على القول الثالث فعدد مرات الرفع في الصلاة الثنائية خمس، وفي الثلاثية ثمان، وفي الرباعية عشر.
- وبناء على القول الرابع فعدد مرات الرفع في الصلاة الثنائية ثلاث عشرة مرة وفي الثلاثية تسع عشرة مرة، وفي الرباعية خمس وعشرون مرة.

- وبناء على القول الخامس وعلى قول من اختار الرفع في كل المواضع على مذهب الألباني فعدد مرات الرفع في الصلاة الثنائية ثلاث عشرة مرة، وفي الثلاثية عشرون مرة، وفي الرباعية ست وعشرون مرة !!
فأي هذه الأشياء كان يفعله الرسول صلى الله عليه وسلم في صلاته ؟!
واختلاف أمر الرفع بهذه الصورة الكبيرة في ظرف قرن ونصف من الزمان بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم أمر يكتنفه الغموض وتحوم حوله الريب والظنون، لما سبق من كون هيئة الصلاة أمرا يتأتى فيه النقل الجماعي، ولكن الروايات مضطربة جدا، وكل واحد ممن يرفع يستند إلى سلسلة من الرواة تنقل كيفية مختلفة عن الكيفية التي تنقلها سلسة أخرى منهم.
فكيف يمكن أن يفسر ذلك ؟!
وحتى لو سلمنا بأن كلا من ذلك فعله الرسول صلى الله عليه وسلم فتبقى الشكوك كثيرة وكبيرة، لأنه عليه الصلاة والسلام لم يكن بينهم أياما يسيرة، بل ظل سنين، وكان الصحابة رضوان الله عليهم يلازمونه كثيرا، ومن غاب عن حادثة أو فاته شيء نقله إليه غيره، ما عدا القليل كما أن الصلاة هي الركن العملي الأكبر في الإسلام،،وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم كل شيء فيها، فلم اختلفوا من بعده ذلك الاختلاف الذي تصوره الروايات وتنبئ عنه الأقوال ؟!
وحتى لو كان كل ذلك جائزا أفعجز النبي صلى الله عليه وسلم -حاشاه - أن يعلمهم ذلك ؟!
ولو كان يفعل بعض ذلك أحيانا ويفعل غيره أحيانا أفيخفى على الصحابة الكرام كل ذلك وهم الملازمون له - عليه الصلاة والسلام - في سفره وحضره سنين طويلة ؟!
والمسألة أشد اضطرابا من ذلك، فإن الصحابي الواحد ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم - حسبما يروي - الاختلاف البين في الرفع، وخير مثال على ذلك ما يروى عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، فالروايات مختلفة عنه في الرفع على النحو التالي:
1-
2-
3-
4-
5-
الأمر الثاني: مناقشة حُكْم الرفع عند القائلين به:
فاوتت الأحكام المتعلقة برفع اليدين في الصلاة على النحو التالي:
1- عند الافتتاح: مكروه، مستحب، سنة، واجب لاتبطل الصلاة بتركه، واجب تبطل الصلاة بتركه، ركن، يأثم تاركه.
2- عند الركوع والرفع منه: جائز، من تمام الصلاة، سنة، واجب، مكروه، بدعة، يبطل الصلاة.
3- في غير المواضع الثلاثة: مستحب، جائز، مكروه، لا يجوز.
وهذا التفاوت الواضح في الحكم دليل بين وبرهان ساطع على كونه ليس من أعمال الصلاة الثابتة.
ولو تجاوزنا حكم الرفع عند تكبيرة الاحرام - مع اتساع الخلاف فيه - لوجدنا النزاع يحتدم بضراوة، لاسيما بين الأحناف من جانب، وبين الشافعية والمحدثين من جانب آخر، وكان من نتائج ذلك أن بعض متأخري الأحناف أخذوا برفع اليدين ثلاث مرات، مما أدى إلى رد بعضهم على بعض.
وقد شارك في المعترك المالكية أيضا، وكان بينهم وبين غيرهم مقالات وردود وانعكس أثر ذلك على المالكية أنفسهم، فوجد بينهم من أخذ برواية الرفع مرة واحدة، ومن أخذ برواية الرفع ثلاث مرات، والحادثة التالية تبين مدى تأصل النزاع فيما بين أتباع المذهب الواحد بسبب موضوع الرفع.
روى ابن العربي المالكي قال:

" ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه، فحضر عندي يوما بمحرس ابن الشواء بالثغر موضع تدريسي عند صلاة الظهر، ودخل المسجد من المحرس المذكور، فتقدم إلى الصف الأول وأنا في مؤخره قاعد على طاقات البحر أتنسم الريح من شدة الحر، ومعه في صف واحد أبو ثمنة ؟؟؟ رئيس البحر قاعد مع نفر ؟؟؟ أصحابه ينتظر الصلاة، فلما رفع الشيخ يديه في الركوع وفي رفع الرأس منه قال أبو ثمنة لأصحابه: ألا ترون إلى هذا المشرقي كيف دخل مسجدنا، فقوموا إليه فاقتلوه وارموا به البحر فلا يراكم أحد، فطار قلبي من بين جوانحي، وقلت: سبحان الله ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت. فقالوا لي: ولم يرفع يديه ؟! فقلت: كذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل، وهو مذهب مالك في رواية أهل المدينة عنه، وجعلت أسكنهم وأسكتهم، حتى فرغ من صلاته، وقمت معه إلى المسكن من المحرس، ورأى تغير وجهي، فأنكره وسألني، فأعلمته فضحك، وقال: من أين لي أن أقتل على سنّة ؟! فقلت له: لا يحل لك هذا، فإنك بين قوم إن قمت بها قاموا عليك، وربما ذهب دمك، فقال: دع هذا الكلام وخذ في غيره " [ أحكام القرآن 4/1900]

هذا، ومن ضمن الصراع الدائر بين الحنفية وبين غيرهم كتاب " رفع اليدين " للإمام البخاري الذي عنّف فيه من يرى الرفع مقصورا على تكبيرة الاحرام فحسب ، وهم أبو حنيفة وأصحابه، وقسا في حكمه عليهم، وكان مما قال:

" الرد على من أنكر رفع الأيدي في الصلاة عند الركوع وإذا رفع رأسه من الركوع، وأبهم على العجم في ذلك تكلفا لما لا يعنيه فيما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعله وقوله ومن فعل أصحابه وروايتهم كذلك، ثم فعل التابعين واقتداء السلف بهم في صحة الأخبار بعض الثقة عن الثقة من الخلف العدول رحمهم الله تعالى وأنجز لهم ما وعدهم، على ضغينة صدره وحرجة قلبه نفارا عن سنن رسول الله صلى الله عليه وسلم مستحقا لما يحمله استكبارا وعداواة لأهلها، لشوب البدعة لحمه وعظامه ومخه، وأنسته باحتفال العجم حوله اغتراراً [ رفع اليدين ص20]

ويبدو أن موقف الإمام البخاري - مع حدته غير المقبولة - كان ردة فعل على من أنكر ذلك، فقد قال:
" من زعم أن رفع الأيدي بدعة فقد طعن في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والسلف ومن بعدهم.." [ رفع اليدين ص127].

ورفع الأيدي الذي يريده هو ما يكون في الموضعين بعد الافتتاح، أي عند الركوع وعند الرفع منه، كما يدل عليه كلامه من قبل.
وقد علق محقق الكتاب بديع الدين الراشدي على كلام البخاري فقال:" لأن المسألة بينهم إجماعية، كما تقدم من أقوال المصنف وعامة السلف، فهذا طعن لا شك فيه " [ رفع اليدين ص127،هامش (1)]
إذن، فقد انضاف شيء آخر، هو دعوى الإجماع على قضية الرفع، وليس الرفع عند الافتتاح فحسب، بل حتى الإجماع على الرفع عند الركوع وعند الرفع منه !!
هذا، وقد عد بديع الدين الراشدي الرفع في الصلاة سنة " ولا يبغضها إلا حاسد أو معاند"، وألمح إلى أن من لم يرَها أو يعمل بها فهو من " أهل البدع وأعداء السنن" (1) !!
__________
(1) البخاري، رفع اليدين، مقدمة المحقق ص 5.