المساعد الشخصي الرقمي

عرض الإصدار الكامل : العدل في الاسلام


ضياء لامع
16/08/2010, 01:45 PM
هذا العدل الذي هو الحكم بالإنصاف وإعطاء كلِّ ذي حقٍّ حقَّه, جاءت به الشرائع كلها، وأكدت عليه شريعةُ الله التي ختمَت الشرائع بنصوصٍ صريحة صحيحة, ويلفت النظرَ عند ذكر العدل والحُكم أن الآيات التي جاءت في هذا المضمار لم تُقيد ذلك العدل والحكم عند من يريد أن يحكم بالإسلام ولا بالمسلمين، وتأمل آياتِ الكتاب العزيز. يقول تعالى في ذكرِ مهمة الرسل كلهم في هذه القضية: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}الحديد25. لا ليقوم الرسل وأتباعُ الرسل, فمهمة هذا العدل العظيم أن يشمل الأرض، ومقصوده الأعلى أن يكون حاكماً لجميع من في الأرض، لأن فيه الخلاص لجميع من في الأرض من جميع مُشكلاتهم.

قال تعالى {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}النساء105. في هذه الآية الكريمة بيانٌ واضحٌ لهذه الحقيقة وهي حُكم سيدنا رسول الله بين مسلم ويهودي يعيش في المدينة، وما استقر به العيشُ إلا بعد مصالحةٍ من سيدنا محمد, وفي ضمن هذه المصالحة كان في دائرة تكذيبه وإنكاره لآيات مُنزلة في التوراة، ومنتمٍ إلى طائفة كثيرة الأذى، كثيرة الكذب, كثيرة التحيُّل والمكر, هذا اليهودي الذي ينتمي لهذه الفئة, ولا نقول إن كل اليهود كانوا بهذه الصورة في المدينة, فإننا نتفقه من آيات القرآن أن الحق عندما يذكر الوصف الغالب على طائفة من أهل الكتاب يهود أو نصارى لا يشملهم ولا يعمُّهم. يقول سبحانه وتعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ }آل عمران113. ويقول: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ}آل عمران75. فهذه أمانةٌ في العدل عندما نريد أن نحكم على فئة أو طائفة أو جماعة لا نجعل ذنبَ الكثير منهم واصلاً على البقية، ولو كان القليل قل: منهم.

إلى حد أن يميِّز الطائفةَ التي استقامت منهم على الحق والهدى, لنعلم أن شأن الاستقامة في منهج الله لا يتصل بجنس ولا ببلد ولا بقطر ولا باعتبار آخر. يقول سبحانه وتعالى: {لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِين}آل عمران113-114. تمجيد للمستقيمين منهم إلى الذين وُجدوا في عهد النبي. ويقول سبحانه وتعالى: {وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً.. وليسوا كلهم كذلك ولكن " مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُون * وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ}المائدة82-83. هذه قضية علَّمَنا إياها أدبُ القرآن ألا نُطلق الحكم هكذا.

سرق طُعمة ابن الأبيرق درعاً على أخيه المسلم، ثم أعطاه اليهودي على أنه أمانة عنده ووديعة، فاستلمه اليهودي, فلما رأى أنه خاف الافتضاح ذهب به إلى بيت اليهودي, فأعطاه إياه على أنه وديعة عنده. فلما بحث هذا المسلم صاحب البيت عن درعه فلم يجده، وكان في الدرع زبيب فكان يمشي به وهو يتناثر في الطريق, فتتبع ذلك حتى وصل إلى بيت اليهودي, كان مرّ على بيته أولا ثم مرَّ على بيت اليهودي, فسأله وقد بات عنده: كنت عندي أين الدرع؟ قال لا أعرفه. ودعا بعض أصحابه وقبيلته قال تعالوا لا أفتضح أمام رسول الله. فجاءوا إلى رسول الله يحاولون أن يُغطوا القضية, ويقولون يا رسول الله إن اليهودي هو الذي سرق الدرع، وأراد أن يرمي به أخانا, لأنهم جاءوا إلى اليهودي يسألونه قال: هذا أعطاني إياه طعمة ابن الأبيرق، فسألوا: طعمة من أين جئت به؟ قال أنا ما رأيته، اليهودي يتهمني كذبا. فلما شرحوا القضية للنبي, ورتبوا ترتيبهم ليأتي الحُكم في تبرئة المسلم وإعطاء الحكم على اليهودي أنه سارق. فنزل القرآن بآيات من رب الكل {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ }النساء105. فلم يقل لتحكم بين المسلمين, ولا بين أتباعك. أنت الذي يحِق أن تُسلَّم زمام الحكم في العالم إليك، لأنك مبعوث رب العالَم إلى العالَم، وإذا حكمتَ حكمتَ بالحق والقِسط على القريب والبعيد, لا تعرف محاكات ولا تسترقُّك بشرية ولا غرض من الأغراض, فأنت عبدُنا الخالص لنا، لا تريد سوانا, ولم نقدم عليك سواك.

قال سبحانه وتعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً}النساء105. إذا عمل أحد أصحابك خيانة, وأراد أن يُلصقها بغيره ولو كان من غير الملة, لا ترضى بهذا السلوك ولا بهذا الأسلوب ولا تدافع عنه، ولا تكن للخائنين خصيما، {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ -يخونون- أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}النساء107. أنت رسول الصدق إلى الكل فأمُرهم بالصدق, وقل لهم عند الحكم لا يأتي أحد بتوسلٍ بشيءٍ من الاعتبارات غير صدقِه مع الله تبارك وتعالى {وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً * يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً} النساء107-108. خاطَب الذين تآمروا مع صاحبهم فقال {هَاأَنتُمْ هَـؤُلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} من الذي سيقف أمام الحكم العدل ويجادل عن فلان أو فلتان؟ {فَمَن يُجَادِلُ اللّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَم مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً * وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} النساء109-110.
انظر إلى الجمع بين إقامة العدل وبين الرحمة، ويفتح الباب للذي أخطأ على نفسه وأراد أن يتهم غيره، يقول له: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً}النساء110. تب واعترِف بما عملت, واعترف بسرقتك تجد الله غفورا رحيما. فما كان إلا أن خُذل ذاك, وهرب من المدينة المنورة.

هذا مظهر من مظاهر العدل ويكفي أن نذكر فيه أيضا حديثاً آخر, عن سيدنا عبد الله بن رواحة، أرسله النبي وكان يرسله في كل سنة إلى خيبر من أجل أن يخرص التمر بعد أن فتح النبي خيبر. فكان يخرص التمر ليعرف كم نصفه فيسلمونه إلى المدينة, فلما كان يخرص التمر أرادوا أن يُرشوه لأجل أن يُطلِّع الكمية من التمر قليلة، وحتى يسلموا قليلا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقدموا لذلك مقدمات ومهدوا له الطريق، بأن شكَوا إلى رسول الله أنه يشدد عليهم ويجحف عليهم ويكثِّر عليهم, فلما قدَّموا هذه المقدمة وجاء عبد الله بن رواحة ليخرص التمر. قالوا يا عبد الله خفف بالتقدير ونعطيك كذا وكذا. التفت ابن رواحة, وهو خرِّيج مدرسة العدل, قال عبد الله بن رواحة عليه رضوان الله تعالى: والله لقد جئتكم من عند أحب الناس إليَّ, ولأنتم أبغض إلي من عِدَّتكم من القردة والخنازير، ووالله ما يحملني حُبِّي له, ولا بُغضي إياكم على أن أزيد حبة ولا أنقصها. ما تحملني هذه المحبة لسيدي رسول الله والبُغض لكم لخيانتكم وغدركم, أترشونني بمال لأدخل النار يا أعداء الله؟ قال: ولكني من أجل الله لن أنقص ولن أزيد, وبُغضُكم لا يحملني على أن آخذ ما ليس لي وما ليس لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فما أعجب هذا الأمر, هل رأيتم منهجا قام في العالم بمثل هذا؟ أو سار هذا النحو. إنّ مُحمداً آية الله الكبرى فصلوا عليه, أدخلنا الله في دائرته صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.

نخرج الحين من بعد العدل إلى هذا الأمر الذي التجأ فيه أصحاب الملل المختلفة لمّا جاء حكم الإسلام إليهم, عاشوا في ظل العدل بعد أن جاء حكم الإسلام ينقذهم من الظلم بواسطة عدل الخلفاء الراشدين رضي الله تبارك عنهم وأرضاهم. حتى قال سيدنا عمر بن الخطاب لابن عمرو بن العاص لمّا لطم ابن القبطي من النصارى: لم لطمته؟ لأنك ابن أمير مصر!! ابن عمرو بن العاص؟ تعال تقدم, بعد أن شكاه وأرسل إلى عمرو وابنه ليحضرا, قال الطمه كما لطمك, وتعال أدِر السيف فوق رأس عمرو بن العاص.

قال سيدنا عمرو بن العاص ما ذنبي أنا يا أمير المؤمنين؟ هذا ولدي لطمه!! قال إنه لم يلطم هذا إلا احتماءً بإمارتك, لو أدبته ما فعل ذلك. لن نضربك , ولكن ندير السيف فوق رأسك نعطيك مثلها.. هذب ولدك. هذه مدرسة سيدي رسول الله صلى الله عليه وسلم.
السيد عمر بن حفيظ.