حلم السنين
26/12/2006, 11:02 AM
بسم الله الرحمن الرحيم
وكنت إذا ما اشتد بي الشوق و الجوى
وكادت عرى الصبر الجميل تفصم
أعـلـل نفـــسي بالـتـلاقــــي وقربـــــه
و أوهــمـها لــكـنــها تــتــوهـــــــــــم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، و الملة السمحاء ، و الحنيفة البيضاء ، و صاحب الشفاعة و الإسراء ، له المقام المحمود ، و اللواء المعقود ، و الحوض المورود ، وهو المذكور في التوراة و الإنجيل ، و صاحب الغرة و التحجيل ، و المؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب الصفوة و الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .
بهذا يسرني أن أكتب عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام
اسمه :
محمد صلى الله عليه وسلم ، اسم على مسمى ، علم على رمز ، ووصف على إمام ، جمع المحامد ، وحاز المكارم ، و استولى على القيم ، وتفرد بالمثل ، وتميز بالريادة ، محمود عند الله لأنه رسوله المعصوم ، و نبيه الخاتم ، وعبده الصالح ، وصفوته من خلقه ، وخليله من الأرض ، ومحمود عند الناس لأنه قريب من القلوب ، حبيب إلى النفوس ، رحمة مهداة ، ونعمة مسداة ، مبارك أينما كان ، محفوف بالعناية أينما وجد محاط بالتقدير أينما حلَّ و ارتحل ، حمدت طبيعته لأنها هذبت بالوحي ،وشرفت طباعه لأنها صقلت بالنبوة ، فالله محمود ورسوله محمد :
وشـقَّ له من اسمِـهِ ليجــلَّهُ
فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ
واسمه أحمد ، بشر بذلك عيسى قومه ، واسمه العاقب و الحاشر و الماحي ، وهو خاتم الرسل وخيرة الأنبياء ، وخطيبهم إذا وفدوا ، وإمامهم إذا وردوا .
نسبه:
فالرسول صلى الله عليه وسلم خيار من خيار ، إلى نسبه يعود كل مخار ، وهو من نكاح لا من سفاح ، آباؤه سادت الناس ، وأجداده رؤوس القبائل ، جمعوا المكارم كابراً عن كابر ، واستولى على معالي الأمور ، فلن تجد في صفة عبد المطلب أجل منه ، ولا في قرن هاشم أنبل منه ، ولا في أتراب عبد مناف أكرم منه ، ولا في رعيل قصي أعلى كعباً منه ، وهكذا دواليك .. حتى آدم عليه السلام ، فهو صلى الله عليه وسلم سيد من سيد يروي المكارم أبا عن جد :
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى
نوراً ومن فلق الصباح عموداً
موطنه:
فقد اختار الله له نم بين بقاع العالم ومن بين أصقاعها أحب البلاد إليه سبحانه ، البلد الحرام ، والتربة الطاهرة ، و الأرض المقدسة ، و الوطن المحاط بالعناية ، المحروس بالرعاية ، فولد صلى الله عليه وسلم في مكة حيث صلى الأنبياء ، وتهجد المرسلون ، وهبط الوحي ، وطلع النور ، و أشرقت الرسالة ، وسطعت النبوة ، وانبلج فجر البعثة ، وحيث البيت العتيق ، و العهد الوثيق ، و الحب العميق ، فمكة مسقط رأس المعصوم ، وفيها مهد طفولته وملاعب صباه ، ومعاهد شبابه و مراتع فتوَّته ، ورياض أنسه .
بلاد بـــــــها نيــطـت علـــــــيَّ تمـــائمي
وأول ارض مسَّ جلدي ترابها
فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى ، وبث دعوته العظمى ، وأرسل للعالمي خطابه الحار الصادق ، وبعث لأهل الأرض رسالته المشرقة الساطعة ، حتى إنه لما أخرج من مكة ودعها وداع الأوفياء وفارقها ومن كاد يتحمل هذا الفراق .
محمد صلى الله عليه وسلم طفلاً:
فإن الطهر ولد معه و البشر صاحبه ، و التوفيق رافقه ، فهو طفل لكن لا كل الأطفال ، براءة في نجابة ، وذكاء مع زكاء ، وفطنة مع عناية ، فعين الرعاية تلاحظه ، ويد الحفظ تعاونه ، وأغصان الولاية تظلله ، فهو هالة النور بين الأطفال ، حفظه الله من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف مقيت ومذهب سيء ، لأنه من صغره مرشح لإصلاح العالم ، مهيأ لإسعاد البشرية ، معد بعناية لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فهو الرجل لكن النبي ، و الإنسان لكن الرسول ، و العبد لكن المعصوم ، و الشر لكن الموحى إليه .
محمد صلى الله عليه وسلم ليس زعيماً فحسب ، لأن الزعماء عدد شعر الرأس ، لهم من طموحات من المعلوم و مقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا ، أما هو فصالح مصلح ، هادِ مهدي ، معه كتاب وسنة ، ونور وهدى ، وعلم نافع وعمل صالح ، فهو لصالح الدنيا و الآخرة ، ولسعادة الروح و الجسد .
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس عالمًا فحسب ، بل يعلم بإذن الله العلماء ، ويفقه الفقهاء ، ويرشد الخطباء ، ويهدي الحكماء ، ويدل الناس إلى الصواب (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس ملكًا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه ، بل إمام معصوم ونبي مرسل ، وبشير ونذير لكل ملك ومملوك ، وحر وعبد ، وغني وفقير ، و أبيض و أسود ، وعربي و أعجمي (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ويقول صلى الله عليه وسلم :" و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " . (1)
و أما شبابه ،
فهو زينة الشباب وجمال الفتيان ، عفة و مروءة و عقلاً و أمانة و فصاحة ، لم يكن يكذب كذبة واحدة ، و لم تعلم له عثرة واحدة ولا زلَّة واحدة ، ولا منقصة واحدة ، فهو طاهر الإزهار مأمون الدخيلة ، زاكي السر و العلن ، وقور المقام ، محترم الجانب ، أريحي الأخلاق ، عذب السجايا ، صادق المنطق ، عفُّ الخصال ، حسن الخلال .
لم يستطع أعداؤه حفظ زلَّة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم ، بل لم يعثروا في ملفِّ خُلقه الكريم على ما يعيب ، بل وجدوا و الحمد لله كل ما غاظهم من نبل في الهمة ونظافة في السجل ، و طهر في السيرة ، وجدوا الصادق الذي يباهي سناء الشمس ، ووجدوا الطهر الذي يتطهر به ماء الغمام ، فهو بنفس الغاية ، في كل خلق شريف و في كل مذهب عفيف ، فكان في عنفوان شبابه مستودع الأمانات ومردَّ الآراء ومرجع المحاكمات ، ومضرب المثل في البرِّ و السموِّ و الرشد و الفصاحة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
(1 ) أخرجه مسلم ( 153 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً
فهو النبأ العظيم ، و الحدث الهائل ، و الخبر العجيب ، و الشأن الفخم و الأمر الضخم (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) فمبعثه حقيقة هو أروع الأنباء و أعظم الأخبار الذي سارت به الأخبار ، و تحدث به السمار ، ووعاه الركبان ، واندهش منه الدهر ، وذهب منه الزمن ، فقد استدار له التاريخ ووقفت له الأيام ، فقصة إرساله عليه السلام لا يلفها الظلام ولا تغطيها الريح ولا يحجبها الغمام ، فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار ، ونزلت على العالم نزول الغيث ، و أشرقت إشراق الشمس ، فهو باختصار نور ، وهل يخفى النور ؟
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) .
وضح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث " (2) .
فهو عليه السلام بعث ليعبد الله وحده لا شريك له ، بعث ليوحد الله ، بعث ليقال في الأرض : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، بعث ليحق الحق و يبطل الباطل بعث بالمحجة البيضاء و الملة الغراء و الشريعة السمحاء ، بعث بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى ، بعث بالخير و السلام و البر و المحبة و السعادة و الصلاح ، و الأمن و الإيمان ، بعث بالطهارة و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، بعث بمعالي الأمور و مكارم الأخلاق و محاسن الطبائع و مجامع الفضيلة ، بعث لدحض الشرك وسحق الأصنام و كسر الأوثان وطرد الجهل و محاربة الظلم و إزهاق الباطل و نفي الرذيلة ، فما من خير إلا دل عليه ، وما من شر إلا حذر منه .
و أما خلقه عليه السلام
فإن الله أدبه فأحسن تأديبه ، فهو أحسن الناس خلقاً و أسدهم قولا ، و أمثلهم طريقة ، و أصدقهم خبراً ، و أعدهم حكماً ، و أطهرهم سريرة ، و أنقاهم سيرة ، وأفضلهم سجايا ، و أجودهم يداً ، و أسمحهم خطراً ، و أصفاهم صدراً ، و اتقاهم لربه ، و أخشاهم لمولاه ، و أعلمهم بالأمة ، وأوصلهم رحماً ، و أزكاهم منبتاً ، و أكرمهم محتداً ، و أشجعهم قلباً ، و أثبتهم جناناً ، و أمضاهم حجة ، و أخيرهم نفساً و نسباً و خلقاً و ديناً .
فهو جميل الصفات مشرق المحيَّا ، قريب من القلوب ، حبيب إلى الأرواح ، سهل الخليقة ، ميسِّر الطريقة ، مبارك الحال ، تعلوه المهابة و ترافقه جلالة ،على وجهه نور الرسالة ، و على ثغره بسمة المحبة ، حيُّ القلب ، ذكي الخاطر ، عظيم الفطنة ، سديد الرأي ، ريان المشاعر بالخير ، يسعد به جليسه ، وينعم به رفيقه ، ويرتاح له صاحبه ، يحبُّ الفأل ويكره الطيرة ، يعفو ويصفح ، ويسخو ويمنح ، أجود من الريح المرسلة ، و أكرم من الغيث الهاطل ، و أبهى من البدر ، وسع الناس بأخلاقه وطوَّق الرجال بكرمه ، و أسعد البشرية بدعوته ، من رآه أحبَّه ومن عرفه هابه ، ومن داخله أجلَّه ، كلامه يأخذ بالقلوب ، وسجاياه تأسر الأرواح .
ثبَّت الله قلبه فلا يزيغ ، وسدَّد كلامه فلا يجهل ، وحفظ عينه فلا تخون ، و حصَّن لسانه فلا يزلّ ، ورعى دينه فلا يضل ، وتولى أمره فلا يضيع ، فهو موفَّق محظوظ مبارك ميمون (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) . ويقول عليه السلام :
"إن أتقاكم و أعلمكم بالله أنا " (3) "خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهله " (4) ويروى عنه أنه قال : " أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ( 5 ) فسبحان من جباه و اصطفاه وتولاه ورحماه ورعاه وكفاه ،ومن كل بلاء وحسن أيلاه .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
(2) أخرجه البخاري (79 ) ، ومسلم ( 2282 ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري ( 20 ) عن عائشة رضي الله عنها .
( 4 ) أخرجه الترمذي ( 3895 ) ، و البيهقي في السنن ( 15477 ) عن عائشة رضي الله عنها .
( 5 ) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 20571 ) و القضاعي في مسند الشهاب ( 1165 ) و انظر كشف الخفاء ( 638 ) .
يـــــــــــــــتبع
وكنت إذا ما اشتد بي الشوق و الجوى
وكادت عرى الصبر الجميل تفصم
أعـلـل نفـــسي بالـتـلاقــــي وقربـــــه
و أوهــمـها لــكـنــها تــتــوهـــــــــــم
المتعبد في غار حراء ، صاحب الشريعة الغراء ، و الملة السمحاء ، و الحنيفة البيضاء ، و صاحب الشفاعة و الإسراء ، له المقام المحمود ، و اللواء المعقود ، و الحوض المورود ، وهو المذكور في التوراة و الإنجيل ، و صاحب الغرة و التحجيل ، و المؤيد بجبريل ، خاتم الأنبياء ، وصاحب الصفوة و الأولياء ، إمام الصالحين ، وقدوة المفلحين ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) .
بهذا يسرني أن أكتب عن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام
اسمه :
محمد صلى الله عليه وسلم ، اسم على مسمى ، علم على رمز ، ووصف على إمام ، جمع المحامد ، وحاز المكارم ، و استولى على القيم ، وتفرد بالمثل ، وتميز بالريادة ، محمود عند الله لأنه رسوله المعصوم ، و نبيه الخاتم ، وعبده الصالح ، وصفوته من خلقه ، وخليله من الأرض ، ومحمود عند الناس لأنه قريب من القلوب ، حبيب إلى النفوس ، رحمة مهداة ، ونعمة مسداة ، مبارك أينما كان ، محفوف بالعناية أينما وجد محاط بالتقدير أينما حلَّ و ارتحل ، حمدت طبيعته لأنها هذبت بالوحي ،وشرفت طباعه لأنها صقلت بالنبوة ، فالله محمود ورسوله محمد :
وشـقَّ له من اسمِـهِ ليجــلَّهُ
فذو العرشِ محمودٌ وهذا محمَّدُ
واسمه أحمد ، بشر بذلك عيسى قومه ، واسمه العاقب و الحاشر و الماحي ، وهو خاتم الرسل وخيرة الأنبياء ، وخطيبهم إذا وفدوا ، وإمامهم إذا وردوا .
نسبه:
فالرسول صلى الله عليه وسلم خيار من خيار ، إلى نسبه يعود كل مخار ، وهو من نكاح لا من سفاح ، آباؤه سادت الناس ، وأجداده رؤوس القبائل ، جمعوا المكارم كابراً عن كابر ، واستولى على معالي الأمور ، فلن تجد في صفة عبد المطلب أجل منه ، ولا في قرن هاشم أنبل منه ، ولا في أتراب عبد مناف أكرم منه ، ولا في رعيل قصي أعلى كعباً منه ، وهكذا دواليك .. حتى آدم عليه السلام ، فهو صلى الله عليه وسلم سيد من سيد يروي المكارم أبا عن جد :
نسبٌ كأن عليه من شمس الضحى
نوراً ومن فلق الصباح عموداً
موطنه:
فقد اختار الله له نم بين بقاع العالم ومن بين أصقاعها أحب البلاد إليه سبحانه ، البلد الحرام ، والتربة الطاهرة ، و الأرض المقدسة ، و الوطن المحاط بالعناية ، المحروس بالرعاية ، فولد صلى الله عليه وسلم في مكة حيث صلى الأنبياء ، وتهجد المرسلون ، وهبط الوحي ، وطلع النور ، و أشرقت الرسالة ، وسطعت النبوة ، وانبلج فجر البعثة ، وحيث البيت العتيق ، و العهد الوثيق ، و الحب العميق ، فمكة مسقط رأس المعصوم ، وفيها مهد طفولته وملاعب صباه ، ومعاهد شبابه و مراتع فتوَّته ، ورياض أنسه .
بلاد بـــــــها نيــطـت علـــــــيَّ تمـــائمي
وأول ارض مسَّ جلدي ترابها
فهناك في مكة صنع ملحمته الكبرى ، وبث دعوته العظمى ، وأرسل للعالمي خطابه الحار الصادق ، وبعث لأهل الأرض رسالته المشرقة الساطعة ، حتى إنه لما أخرج من مكة ودعها وداع الأوفياء وفارقها ومن كاد يتحمل هذا الفراق .
محمد صلى الله عليه وسلم طفلاً:
فإن الطهر ولد معه و البشر صاحبه ، و التوفيق رافقه ، فهو طفل لكن لا كل الأطفال ، براءة في نجابة ، وذكاء مع زكاء ، وفطنة مع عناية ، فعين الرعاية تلاحظه ، ويد الحفظ تعاونه ، وأغصان الولاية تظلله ، فهو هالة النور بين الأطفال ، حفظه الله من الرعونة ومن كل خلق رديء ووصف مقيت ومذهب سيء ، لأنه من صغره مرشح لإصلاح العالم ، مهيأ لإسعاد البشرية ، معد بعناية لإخراج الناس من الظلمات إلى النور ، فهو الرجل لكن النبي ، و الإنسان لكن الرسول ، و العبد لكن المعصوم ، و الشر لكن الموحى إليه .
محمد صلى الله عليه وسلم ليس زعيماً فحسب ، لأن الزعماء عدد شعر الرأس ، لهم من طموحات من المعلوم و مقاصد من الرئاسة ومآرب من الدنيا ، أما هو فصالح مصلح ، هادِ مهدي ، معه كتاب وسنة ، ونور وهدى ، وعلم نافع وعمل صالح ، فهو لصالح الدنيا و الآخرة ، ولسعادة الروح و الجسد .
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس عالمًا فحسب ، بل يعلم بإذن الله العلماء ، ويفقه الفقهاء ، ويرشد الخطباء ، ويهدي الحكماء ، ويدل الناس إلى الصواب (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ )
ومحمد صلى الله عليه وسلم ليس ملكًا يبسط سلطانه وينشر جنوده وأعوانه ، بل إمام معصوم ونبي مرسل ، وبشير ونذير لكل ملك ومملوك ، وحر وعبد ، وغني وفقير ، و أبيض و أسود ، وعربي و أعجمي (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ) ويقول صلى الله عليه وسلم :" و الذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار " . (1)
و أما شبابه ،
فهو زينة الشباب وجمال الفتيان ، عفة و مروءة و عقلاً و أمانة و فصاحة ، لم يكن يكذب كذبة واحدة ، و لم تعلم له عثرة واحدة ولا زلَّة واحدة ، ولا منقصة واحدة ، فهو طاهر الإزهار مأمون الدخيلة ، زاكي السر و العلن ، وقور المقام ، محترم الجانب ، أريحي الأخلاق ، عذب السجايا ، صادق المنطق ، عفُّ الخصال ، حسن الخلال .
لم يستطع أعداؤه حفظ زلَّة عليه مع شدة عداوتهم وعظيم مكرهم وضراوة حقدهم ، بل لم يعثروا في ملفِّ خُلقه الكريم على ما يعيب ، بل وجدوا و الحمد لله كل ما غاظهم من نبل في الهمة ونظافة في السجل ، و طهر في السيرة ، وجدوا الصادق الذي يباهي سناء الشمس ، ووجدوا الطهر الذي يتطهر به ماء الغمام ، فهو بنفس الغاية ، في كل خلق شريف و في كل مذهب عفيف ، فكان في عنفوان شبابه مستودع الأمانات ومردَّ الآراء ومرجع المحاكمات ، ومضرب المثل في البرِّ و السموِّ و الرشد و الفصاحة (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
(1 ) أخرجه مسلم ( 153 ) عن أبي هريرة رضي الله عنه .
محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً
فهو النبأ العظيم ، و الحدث الهائل ، و الخبر العجيب ، و الشأن الفخم و الأمر الضخم (عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ ) فمبعثه حقيقة هو أروع الأنباء و أعظم الأخبار الذي سارت به الأخبار ، و تحدث به السمار ، ووعاه الركبان ، واندهش منه الدهر ، وذهب منه الزمن ، فقد استدار له التاريخ ووقفت له الأيام ، فقصة إرساله عليه السلام لا يلفها الظلام ولا تغطيها الريح ولا يحجبها الغمام ، فإنما هي قصة عبرت البحار واجتازت القفار ، ونزلت على العالم نزول الغيث ، و أشرقت إشراق الشمس ، فهو باختصار نور ، وهل يخفى النور ؟
( يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) .
وضح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال :" مثل ما بعثني الله به من الهدى و العلم كمثل الغيث " (2) .
فهو عليه السلام بعث ليعبد الله وحده لا شريك له ، بعث ليوحد الله ، بعث ليقال في الأرض : لا إله إلا الله محمد رسول الله ، بعث ليحق الحق و يبطل الباطل بعث بالمحجة البيضاء و الملة الغراء و الشريعة السمحاء ، بعث بالعدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى ، بعث بالخير و السلام و البر و المحبة و السعادة و الصلاح ، و الأمن و الإيمان ، بعث بالطهارة و الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج و الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ، بعث بمعالي الأمور و مكارم الأخلاق و محاسن الطبائع و مجامع الفضيلة ، بعث لدحض الشرك وسحق الأصنام و كسر الأوثان وطرد الجهل و محاربة الظلم و إزهاق الباطل و نفي الرذيلة ، فما من خير إلا دل عليه ، وما من شر إلا حذر منه .
و أما خلقه عليه السلام
فإن الله أدبه فأحسن تأديبه ، فهو أحسن الناس خلقاً و أسدهم قولا ، و أمثلهم طريقة ، و أصدقهم خبراً ، و أعدهم حكماً ، و أطهرهم سريرة ، و أنقاهم سيرة ، وأفضلهم سجايا ، و أجودهم يداً ، و أسمحهم خطراً ، و أصفاهم صدراً ، و اتقاهم لربه ، و أخشاهم لمولاه ، و أعلمهم بالأمة ، وأوصلهم رحماً ، و أزكاهم منبتاً ، و أكرمهم محتداً ، و أشجعهم قلباً ، و أثبتهم جناناً ، و أمضاهم حجة ، و أخيرهم نفساً و نسباً و خلقاً و ديناً .
فهو جميل الصفات مشرق المحيَّا ، قريب من القلوب ، حبيب إلى الأرواح ، سهل الخليقة ، ميسِّر الطريقة ، مبارك الحال ، تعلوه المهابة و ترافقه جلالة ،على وجهه نور الرسالة ، و على ثغره بسمة المحبة ، حيُّ القلب ، ذكي الخاطر ، عظيم الفطنة ، سديد الرأي ، ريان المشاعر بالخير ، يسعد به جليسه ، وينعم به رفيقه ، ويرتاح له صاحبه ، يحبُّ الفأل ويكره الطيرة ، يعفو ويصفح ، ويسخو ويمنح ، أجود من الريح المرسلة ، و أكرم من الغيث الهاطل ، و أبهى من البدر ، وسع الناس بأخلاقه وطوَّق الرجال بكرمه ، و أسعد البشرية بدعوته ، من رآه أحبَّه ومن عرفه هابه ، ومن داخله أجلَّه ، كلامه يأخذ بالقلوب ، وسجاياه تأسر الأرواح .
ثبَّت الله قلبه فلا يزيغ ، وسدَّد كلامه فلا يجهل ، وحفظ عينه فلا تخون ، و حصَّن لسانه فلا يزلّ ، ورعى دينه فلا يضل ، وتولى أمره فلا يضيع ، فهو موفَّق محظوظ مبارك ميمون (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ ) . ويقول عليه السلام :
"إن أتقاكم و أعلمكم بالله أنا " (3) "خيركم خيركم لأهله و أنا خيركم لأهله " (4) ويروى عنه أنه قال : " أنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " ( 5 ) فسبحان من جباه و اصطفاه وتولاه ورحماه ورعاه وكفاه ،ومن كل بلاء وحسن أيلاه .
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ
(2) أخرجه البخاري (79 ) ، ومسلم ( 2282 ) عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
(3) أخرجه البخاري ( 20 ) عن عائشة رضي الله عنها .
( 4 ) أخرجه الترمذي ( 3895 ) ، و البيهقي في السنن ( 15477 ) عن عائشة رضي الله عنها .
( 5 ) أخرجه البيهقي في السنن الكبرى ( 20571 ) و القضاعي في مسند الشهاب ( 1165 ) و انظر كشف الخفاء ( 638 ) .
يـــــــــــــــتبع