المساعد الشخصي الرقمي

عرض الإصدار الكامل : قراءة في مجموعة لا يجب ان تبدو كراوية! للقاص هلال البادي رهانات الكتابة بين الشكل والتيمة


سويري
09/03/2007, 01:03 PM
قراءة في مجموعة لا يجب ان تبدو كراوية! للقاص هلال البادي رهانات الكتابة بين الشكل والتيمة



ابراهيم الحجري



تزخر مجموعة هلال البادي القصصية الثانية التي تأتي بعد الاصدار الأول المعنون بـ مجرد خيال عابر بفيض من العناصر الدلالية والشكلية، والتي من شأنها أن تضيف الجديد للمكاسب التي حققها القص العربي عموما والذي ينزع منذ بروزه الأول للتميز وبناء هوية خطابية تمنحه الاستقلالية. وقد بدا هلال، من خلاله متمردا علي القوالب الجاهزة، مصرا علي التجرد من التبعية للثوابت الفنية المألوفة سواء من خلال التنقيب عن آفاق جديدة للشكل القصصي أو من خلال الايمان العميق بأهمية التنقيب عن نوازع الذات ومنغصاتها الدلالية والرمزية وذلك عبر استغوار الأسئلة المستضمرة التي تقض مضجع الذات الجمعية بصفة عامة، لذلك فهو يسعي الي أن يكون مميزا في طرقه لموضوعات هامشية لا ينتبه اليها الغير، وبالقدر نفسه يتفادي أن يكون تابعا ومكرورا ونمطيا، ومنه فقد جاءت مجموعته حافلة بالمؤشرات التي تستوقف المتلقي وتبعث علي التساؤل. وتأتي مقاربتنا لها بهدف استجلاء مكامن المغايرة في المتن والمبني /الشكل والموضوعات، وهي بمثابة الرهانات التي تنبني عليها الرؤيا الفنية عند الكاتب.
ينطلق القاص /الباث في بناء متنه القصصي من مسوغ فلسفي عميق لطالما قض مضجع الفلاسفة والمفكرين من قبل، غير أن البادي يستثمر هذا المسوغ وفق رؤية فنية تتماهي مع رؤي متعددة، وان ظلت هي المحور والمركز الذي يشد آلية حبال الحكي برمته. يتعلق الأمر بثيمة الموت، التي تحضر بشكل غريب في هذه المجموعة، ولعل الكاتب يتعالي عن توظيف البعد الواقعي للموت، ليجعله من عالم المثل التي يجب علي المرء أن يفكر فيها كسؤال فلسفي محير، وهو بذلك لا يقصد الموت الفيزيقي الذي ينتظره حتما كل كائن حي، بل يروم الموت كسؤال فلسفي نعيشه يوميا، ولعل انبثاق هذه الرؤية الدلالية والموضوعية من سديم النصوص القصصية في غالبيتها، يأتي انطلاقا من اقتناع واع بأهمية الثيمة المطروقة، وذلك بالنظر الي الظروف السوسيو اقتصادية التي يعيشها الوطن العربي، وبالنظر الي حجم الأخطبوط الأزموي الذي يتخبط فيه. وبالتالي فالكاتب هلال البادي يكتب بوعي فلسفي لكل المظاهر المجتمعية التي يتناولها، ويعي المنطلقات المرجعية التي تؤطر خوضه غمار اللحظة الكتابية وطقسها المروع، والأكثر من ذلك أنه ربما يسعي الي صياغة الأسئلة مسبقا كي تكون كتابته القصصية متبلورة العناصر في بوتقة الرؤيا العامة التي يأتي المنجز القصصي تتويجا لها، وهذا ليس غريبا علي قاص تعود أن يفرز تجربته الحياتية ومخاضاته الفكرية اليومية في شكل كتابات متنوعة الأشكال بحكم اشتغاله بالصحافة والنقد والمتابعات القرائية؛ علاوة علي الانتاجات القصصية والسردية. ان الكتابة القصصية تحبل بهذه الثيمة وتروج لها؛ لا لتجعل منها تمحيصا استكشافيا أو عرضا حكائيا بقدر ما تروم جعلها سؤالا مفتوحا يتيح للقارئ أن يفتح آفاقا ممتدة وشرفات عميقة من خلالها يطل علي عوالم كينونته، فالموت كما تبلوره التجربة هنا ليس الموت الذي نعرف، بل هو موت من نوع آخر لا يعرفه العموم، موت يتسرب الي النفوس ليجعلها مستسلمة خانعة، موت يقتل النفوس ولا يزهقها، موت معنوي يفرغ الذوات من جوهرها الانساني الذي به تحيا، فأغلب الشخوص التي تتمظهر عبر قصص المجموعة تعلن هذا الخواء الذي يداهمها ويحاصرها ليل نهار صباح مساء، دون أن تجد لها من رد فعل تجاه ما يحدث، وهذه هي الطامة الكبري، لكن الشيء الايجابي هو كون هذه الشخوص، علي امتداد النصوص وتعددها، وعلي اختلاف مواردها ومرجعياتها وخلفياتها السياقية والاجتماعية، وعلي تنوع الآفاق التي تنحدر منها، وعلي تضارب منطلقاتها الفكرية والثقافية، تعي هذا التشظي وهذا الموات الذي يعصف بها، يقول أحد الساردين والذي هو في الآن نفسه شخصية محورية في القصة ها نحن نملأ الوقت تعفنا جديدا.. نملؤه ضياعا ينخر في أعماقنا كالدود! نحن جثث المقابر التي تعفنت، وآن لها أن تؤكل! أن تمضغها الحشرات والديدان، تحللها الرطوبة اللزجة! كيف لي أن أخرج من هذا القبر؟ لقد سئمت كل هذه الحكاية المبللة بالضياع والألم.. الي متي أتحمل كل هذا الوأد الذي يحاصرني؟ الي متي أظل مقيدا في أغلال هذا الكفن الذي فقد لونه الأبيض، وصار أسود من كثرة العفن.. 1. هذا المقطع الافتتاحي يعكس بجلاء الي أي حد لم تعد الذات قادرة علي تحمل موتها المعنوي، ربما في هذه الحالة يصبح الموت الفيزيقي أرحم، ولهذا فالذات تصرخ في وجه ذاتها قبل العالم، وترجوها أن تتمرد علي هذا الموت الذي يخربها من الداخل دون شفقة، وهذه الشخوص لا تعي موتها فحسب بل انها تطمع في أن تعود من جديد الي الحياة التي تتغياها وتبتغيها، وتفكر جديا في الكيفية التي بها ستعود الي حاضرة الحياة. يقول الراوي- الشخصية أريد أن أعود.. أعود الي الحياة.. أن أشم الهواء النقي، أن ابلل حلقي بالماء الصافي، أن ألهو سباحة في نبع الغابة الطاهرة!! 2. يحس الراوي /الذات /الشخصية أن معادلة الحياة التي يعيشها لا تستحق أن تعاش؛ فهي موت بامتياز يسحقه، يقتله يوميا بطرق مغايرة يقول: لكنني منذ الحياة وأنا خاو.. الحياة بليدة دائما... تبعث علي الغثيان.. فراغ الرأس في القبر أهون من فراغه في الحياة!! أنا فارغ الآن، تمضغني ديدان الأرض الرثة 3، ان استثمار الموت بوصفه ثيمة لا يشي بانتهاك موضوعي سلبي، بل انه يحضر كنقيض وطرف صراع في معادلة تطاحن بين الحياة والموت، والشيء لا يدل الا بنقيضه كما هو معلوم. ان الكاتب يوظف هذا الدال العصي ليحيل به علي ضده، ليستفز قارئه كي يتململ من أجل صنع حياته الخاصة ومقاومة موت محقق، موت ينتهك الذات والضمير الجمعي معا، المنجز يطرح صراخه علي طريق العابرين من القراء لعل وعسي أن يقفوا وقفة رجل واحد ضد تلاش عام يفتت الذات ويهد الهوية الانسانية.
الموت غيمة سوداء تخيم علي مجمل النصوص، وهو رهان جديد يعول عليه الكاتب في نصوصه القصصية، اذ يصوغ عوالمه الدلالية بناء علي موضوعات محددة يشتغل بها كأفق مشرع يمنحه وجودا نصيا خاصا، بطرق وأساليب مختلفة، صحيح أن النصوص تعتمد علي أحداث متعددة ، لكن مؤشرات الموت تحضر بقوة في هذا النص أو ذاك، مما يتيح امكانات هائلة لمقاربة النص مقاربة سيميائية تتناول العلاقات المتضادة بين القيم المطروحة نصيا، وتشاغب فوضي الصراع بين الموت والحياة خصيصا. انني لن أجازف اذا قلت ان المجموعة هذه يغلب عليها الطابع السوداوي، وتخيم عليها سحب دكناء لا مطر فيها، وتبدو الحياة في هذا الأفق المظلم بلا معني، وتفتقر لأقل أسباب الرفاه، وهذا وازع قوي جعل رؤيا المنجز غائمة بلا أفق بسبب كثرة المتاريس ووعورة مسالك هذه الحياة نفسها؛ يقول الراوي في قصة طراوة جرح الزوج مات في حقل ملغم، كان يحاول أن يستخرج جذور البطاطا الضئيلة، فاستخرج عوضا عنها جذور الموت! ومات مبتسما ولم تبك عليه السماء، ولم يندبه أحد مهم، وظلت الدموع محبوسات في المحاجر، أما السواد فقد كان مخيما من ذي قبل! 4، هكذا تشي المجموعة بصراخ الذات وشكواها، حيث يصبح فعل الكتابة نفسه سلوي وملاذا من قهر المعيش الذي يمزق هذه الذات كل لحظة، انه الفعل -ربما- الذي تجرب من خلاله الذات هاته أنها ما تزال بالفعل حية، وكم مرة ورد هذا الشك لدي الرواة والساردين الأبطال في المجموعة!! ويكفي أن أورد هذا المقطع أفقت متحسسا نفسي: لا زلت حيا... دعكت عيني كي أتأكد بأنني فعلا لا زلت حيا: قدماي موجودتان تتحركان بكل سهولة، وذراعاي موجودان يعبثان في الهواء! ووجهي... لا زال موجودا كما هو، مثلث بلا زوايا حقيقية... 5، ان الشخوص ما تحسب نفسها، من كثرة التشظي، الا أوهاما أو أشباحا تدب في الأرض من غير شكل أو هيئة، وهذا انطباع تسبح في مائه العكر كائنات النص الكبري.
هذا عن الشكل الدلالي الذي تتمرأي فيه المتون السردية لهذا المنجز، أما تجليات رهاناته الشكلية، فهي الأخري تسمها فكرة التجريب والاجتهاد في خلق قوالب نصية جديدة، وهذه الميزة تسود حتي داخل المنجز نفسه فان الشكل لا يتكرر بين قصة وقصة، فكل نص قصصي ينفرد بصيغة تجليه، وهذا تصميم مسبق من الكاتب، الذي علي ما يبدو يسعي الي تجريب القوالب واستثمار ما يعن له من أشكال يستعيرها من مجالات أخري قريبة أو بعيدة من فن القص، لا يهم ما دامت تفي بالقصد! وهكذا تظهر المجموعة وكأنها مهرجان من القوالب التجريبية المتنوعة التي تُصب فيها المحكيات. ومع ذلك فان الاكثار من القوالب هذا، لم يؤثر، بتاتا، علي جمالية المنجز، بالعكس تماما زاد من لذة القراءة، وأجج حرارة معانقة القارئ لهذه المتون، ففضلا عن التذاذه بالحكاية، فهو أيضا يستمتع بصنعة الكاتب في انتقاء أشكاله ومدي انسجامها مع المدلول السياقي والجمالي والفني للرسائل المتضمنة في المكتوب، ويشي هذا العمل بالجهد المستفرغ من طرف الكاتب الفعلي لانجاز هذه القصص بهذا الشكل أو ذاك.
ومن جملة ما نصادفه من تميز هذه القوالب السردية التي فضل القاص أن يفرغ فيها متنه القصصي أذكر: البنية الشذرية التي تتخذها بعض النصوص، وهي سواء جاءت عن طريق مقاطع سردية لها عناوين فرعية تندرج داخل قصة أساسية، أو جاءت عبارة عن فقرات تفصل بينها فواصل ورموز أو مؤشرات زمنية، فانها لا تخرج عن الطابع العام الذي يحكم النص ككل، اذ أنها في النهاية ليست سوي تنويعات داخل السياق الدلالي الواحد، والغرض من هذا التشذير هو منح القاص فرصة استرجاع نفَسه، ورفع ايقاع السرد ووتيرة النبض المعنوي، مع اتاحة امكانيات أكبر للتفجر والتعقيد والتعدد والتنويع، وهي فرص قلما يمنحها النص القصصي غير المتشدر. أضف الي ذلك ما تتميز به التجربة من حب مفاجأة القارئ وفتح نهايات القصص بما لا ينتظره القارئ، وهي طريقة تعمق من حدود اشراك المتلقي في بناء الحكاية وتشييد المعني، فغالبا ما تنتهي القصص بنقط حذف كثيرة تحيل علي معان غير معلنة يستضمرها الفراغ الكامن فيما وراء السطور، أو فيما وراء مخيلة القارئ، وعليه فالقصة لا يمكن أن تنتهي الا في ذاكرة قارئها الذي يصبح جزءا لا يتجزأ من العالم القصصي. هذا، وتستثيرني خصيصة أخري في المنجز وهي تعدد الرواة ووجهات النظر وصيغ السرد، وهذا الحضور التقني يشي بالوعي المسبق بآليات الكتابة، والحرص البالغ من الكاتب علي توظيف أساليب جديدة، كما ألمس الحضور المتميز لضمير المتكلم، مما يدل علي التطابق النسبي بين الكاتب والسارد والبطل، فهي عناصر قلما تفترق ايذانا بوجود كاسح لسؤال التشظي في طقس المعني العام، خاصة عندما يلتقي بعنصر المجازفة الاستشرافية للزمن، ذاك الذي يغوص في الماضي والحاضر ليكتسح الأمام بلا تخوف ولا ارتجاف، انه عالم قاس يتحكم في زمنه ما دام الموت هواء تتنفسه شخوصه.
عموما يمكنني القول بأن المنجز هذا عالم غني يصعب محاصرة بناه، شكلية كانت أو دلالية، لذلك فهذه مجرد خلخلة سطحية لقراءة أولي، الغرض منها اقتراح سبل جديرة بالتناول، وهي أو ما يستوقف القارئ، ان مجموعة لا يجب أن تبدو كرواية! مشحونة بشكل كبير من الدوال السيميائية والمقصدية، مما يجعلني أنوه بأهمية تناولها وفق تصور نقدي مخالف، وبناء علي تصور واع بالقوالب والأشكال والامتدادات التي حققها التقاطع والانفتاح بين الأجناس والأنواع والأنماط.


1 ـ البادي هلال: لا يجب أن تكون كرواية ، وزارة التراث والثقافة، سلطنة عمان، الطبعة الأولي 2006م ص 13.
2 ـ نفسه ص 13.
3 ـ نفسه ص 13 ـ 14.
4 ـ نفسه ص 76.
5 ـ نفسه ص 73.
ناقد وقاص من المغرب


القدس العربى

09/03/2007